عدن – 1965 بعيون أديب فرنسي كبير
> هي ذي عدن وما زالت من بعيد صخرة رامبو التي لا نعلم حقاٍ هل هي من أشياء دانتي أو غوستاف دوريه ولكن بها نشاز الهيئة التي تتخذها في زمن الغواصات الذرية هذه الصخور الامبراطورية لعاهلة البحار القديمة. ومكبرات الصوت تعلن على ظهر السفينة »نظراٍ للوضع في عدن فإن الركاب الراغبين في النزول إلى الأرض يتحملون المسؤولية كاملة« يريد الانكليز أن يجعلوا من عدن عاصمة اتحاد من سلطنات جنوب الجزيرة يمنحونه الاستقلال عام ٨٦٩١م أما العرب الذين يعادون السلاطين ويؤيدهم المصريون وينظمونهم في اليمن فهم يريدون أن يطردوا الانكليز في الحال.
زورق القنصلية الفرنسية في انتظارنا.
مثلما يحدث في كل مكان من الشرق بزغت هنا مدينة جديدة: طرق الاسفلت تمتد على أرض كانت في يوم من الأيام للإمبراطورية البريطانية تحفها منازل كأنما هي من أميركا الجنوبية ثم لونتها الهند بطلاء أخضر نيلي أو رصاصي أو أزرق رمادي وفي وسط المدينة حديقة مستغربة في هذا الحقل الذي لا تزيل جفافه منازل بألوان شراب الفاكهة فقد أينعت أزهار الجهنمية والدفلى »هناك لافتة تمنع قطف أوراقها« وفي قلب الحديقة يقوم المتحف الصغير.
هو المتحف التقليدي الذي نراه في المستعمرات الإنكليزية خليط نظيف جداٍ فيه طيور مصيرة تقع عينها المستديرة على مجموعة من زجاج البلور وفيه بعض الأزياء وأنواع من البذور وفيه البقايا الأثرية التي يستحسن أن نتأملها جاثين على اليدين والقدمين كمثل جلوسنا القرفصاء في متحف التروكاديرو. والنحوت الغائرة المحفورة على صحاف الحجر مرصوصة مثل الكتب فلا نرى منها غير الكعوب ولكن هناك عند ارتفاع ركبتنا شخوص كثيرة من المرمر هي أعظم مجموعة من تماثيل سبأ تفوق القسطنطينية وتفوق فيلادلفيا.
يحملها البدو إلى هذا المكان تمثالاٍ بعد آخر وكان بعض الأثرياء من تجار العرب قد جمع عددا كبيراٍ منها وأوصى بها للمتحف ذلك أن سبأ أو مارب سمها كما تشاء لا تزال في أيدي الانفصاليين لقد صمدوا للأمراء ولليمنيين وللمصريين وصمدوا وكان ذلك أصعب وأدهى لناقلات البترول التي فشلت حملتها الأخيرة وصمدوا للإنكليز لا بد أن أولئك قد عرفوا قصارى ما يستطيعونه ولو عن طريق عملائهم المحليين ولكن علم الآثار لم يكن في هذه البلاد من كبرى الهموم التي تشغل أقلام مخابراتهم فهل يقدر لبعثة علمية تنظمها عدن المستقلة أن تبدد يوماٍ ما »لغز سبأ« – اللغز الذي لا يمس أقله في هذه القاعات التي يسكنها شبح الصيدلي أرنو وطيف حماره..
»وأقام رجل دبار كل الأشياء التي صاغتها أيديهم تحت حماية الآلهة والملوك والقبائل من سبأ ودعوا على كل من حدثته نفسه بأن يتلف أو يملخ أو يخلع صورة منوحتة من مكانها أو صنماٍ واحداٍ أن يباد نسله!«
لو كنت جرباء لأحببت هذه الكلمات المنقوشة لكنني أحب النقوش التي تتحدث وتروي عن الألهة المحيرة مثل سين الإله القمر قد نعت بالمذكر وهو مؤنث في الميثولوجيات الأخرى وذات بدن الألهة الشمس والعزي إله فينوس مذكر وقد أشارت إليه نقوش كثيرة ولكنه لا يزال مجهولاٍ وفي هذا المتحف المسكين الذي طغت على أزهاره الصغيرة الباسلة مياه الآبار الصقلية التي يعزى إنشاؤها إلى الملكة بلقيس والتي طوقت في حلقان جهنمية يحلم المرء بالمزاج الجنسي عند الشعب الذي صور فينوس رجلاٍ ورأى في الشمس علامة الخصوبة والأنثوية وفي القمر »أباٍ« رحيماٍ سلاماٍ. هم حمدوا الليل فهل كانت نعمة الليل بنت الصحراء¿ ولكن الشعوب الأخرى في البادية كانت في العصور نفسها تجعل من القمر الها قاسياٍ أي مزاج جنسي مضطرب أو نقي صبغ على خلاف الآخرين تفكير هذه السلالة البائدة وقد جاء في أسطورتها التي لم يحققها أي واقع تاريخي إن ملكاتها هن اللواتي حكمن دائما¿
كان في القسطنطينية على هامش مجموعة المتحف جملة من الأعمال المزيفة التي تستأهل التقدير ولا أراها تقلد الأعمال الأصلية ولكن تبتدع فنا فالدمى التي عثر عليها البدو هي حقيقية. وفي دمى معمارية مثل بعض التماثيل السومرية والمكسيكية التي كان الشخص منها هو العبد والمعبود والمعبد في الوقت نفسه وتماثيل ملوك »تشبه الأصل« من بعيد وهي من تاريخ لاحق وربما من تأثير فارثي وفي القاعة الثانية ملك عظيم الشوارب معروض أمام نسيج من المخمل الأسود مثنى من أوساط الحروف كم من القرون انقضت بين تلك الصياغة الحوشية وهذه الوجوه التي تشبه من بعيد الوجوه الرومانية والفارثية والتدمرية والتي راحت البطاقات الساذجة البريئة تمتدح لنا »رقتها« وماذا يهم¿ إنهم آخر مبعوثي الملكة التي ملأت التوراة بعطورها والتي لم يبق منها غير ضحكة يتردد صداها في الفلوات »فاضحك إذن يا راهب الصومعة«.
هل نقب في ناووسها لصوص المقابر ولم يبق من موميائها المبيعة غير عين سقطت مثل عين فرعونة متحف القاهرة التي عثر عليها فوق درج المقبرة بين مومياءات التماسيح وقطط كبيرة الأذن¿ هل نجد القناع الرقيق الذي غطى وجهها ساعة الموت والتجاويف الطائشة التي أحدثتها الأصابع عندما غرزت في المعدن لتحفظ طابع وجناتها وهي لا تزال دافئة¿ أم نعثر على سلخة ذهبية لم يحكم تلبيسها مثل التي كانت في متحف أثينا القديم فوق البطاقة المتربة المغتصبة: »قناع أنا ممنون..«
ومن بين الطرائف طرفة ليس لوجودها في هذا المكان تفسير خاص هي قطعة ذهبية من فئة المئة فرنك برسم نابليون. أفكر في قناعة بالجمعية الجغرافية يغشاه الظل خلف شاركو أيام كان يحدثني عن أرنو هو أرنو الذي كتب أنه عندما بلغ مارب سمع عن رجل أبيض وصل إليها قبلة: مازال العرب يذكرون لونه الأبيض ومروره المستغرب ظنوه المهدي المنتظر فقضى الأمسية عند شيخهم وأعطى الذين أحاطوا به إحدى عشرة قطعة ذهبية كبيرة وبعد صلاة المغرب ورغم أنه لا يعرف أحدا حملوا إليه رسالة قرأها وقال »مات أخي« ونهض قائما ورحل وفي الغداة عثروا حول التمثال الوحيد في الأطلال وعند أقدامه المهشمة الضخمة على أحد عشر »شبحا للقطع الذهبية« وسرعان ماعلموا أن المسافر المجهول قد اغتيل على يد قبيلة مجاورة.
وطلب أرنو أن يحضروا إليه قطعة منها: كانت من فئة المئة فرنك الذهبية مع رسم نابليون وكانت العشر الأخرى لا تزال في سوق مارب رغم أن الأيدي تداولتها كثيرا لقد حرم الشيخ دخول صنعاء على ذهب هذا المسافر الذي بدأ كأن في حوزته علم سليمان وطلب أرنو أن يرى الشيء الذي أطلق عليه العرب »شبح« العملة فجاؤوا ببرشام للختم وبرشام الختم كان مجهولا في الجزيرة العربية فلا بد أن المسافر هو الذي أتى به فما الذي حمله بعدما وزع قطع العملة على أن يخترع أشباحا¿.
أريد اليوم أن تهدي سبأ التي لم يهتك حجابها بعد إلى هذا المغامر الذي ظهر لبرهة من الزمن فما برح أن لقي مصرعه فيها وهو بلا ريب لا يملك قبرا لأنه من هؤلاء المغامرين الذين فتنوا بأهواء الصدفة وإلى الصدفة عادوا فليلعب حيثما كانت عظامه مثلما يلعب الموتى الذين ظلوا طوال حياتهم شجعان مستخفين بالأخطار مع أسطح سبأ الخالية من الزهور ومراصدها التي أضحت ترابا ومخازن عطورها ومابها من أطلال ترعشها الوحشة تحت وسم الطيور الصامت حتى يمسك كلانا في أيدينا وهي ظلال لغزاٍ من آخر الألغاز يزاخينا في ملالة الموت التي لا تنتهي.
حارس مهذب يطلعني من فرجة النافذة على الآبار المنسوبة إلى بلقيس ويقص على حديث الملك آل كرب الذي هرب مع قومه بعدما رأى في ليلة من الليالي فأرا يزلزل بأقدامه الصغيرة صخرة من سد مارب لم يكن في مقدور عشرين محاربا أن يزعزعوها من مكانها السد الذي أدى دماره إلى تسليم ثروة مملكة سبأ وحياتها للرمال…
وسيان غدت مدينة محرمة أو مفتوحة مدينة من الأطلال أو من الطوب المضروب بالصلصال مثل نينوي فإني لن أرى مارب من جديد أبداٍ هاهي تماثيلها ونقوشها وربما أزهارها شجرة المúر أمام المتحف تختلط بنخلة من الزنك كانت عند قيام طائرتنا الشجرة الوحيدة في جيبوتي وهي الآن مدينة…. بقطعانها من الماعز ورعاتها السود على بياض حقول الملح وشعاع أخير من الشمس على حديد رماحهم ها هو النجاشي في قاعة العرش وقد جلس على أريكة من محلات »غاليري لافاييت« ومن حوله الرسميون بالعباءات ينطق المترجم اسم كورنيليون ابتسامة النجاشي حزينة وزئير آساد يهوذا يدخل من النوافذ أقفاصها تحيط منذ قرون بالممشى الكبير في قصر ملوك الحبشة الذين ينسبون إلى ملكات سبأ أصولهم الأسطورية. هذه هي الصحراء غمامها بلون الرمال مثل أطلالها وسليمان ميتا يحيط به جنة الغيران من الزوابع العاصفات على هواها وصيحة عظيمة تطلقها الملكة التي تعزف بالقيثارة تحت مجرات تحمل أسماء الحشرات هو شعر الأحلام الميتة لأن هناك أحلاما قد انهارت واستحالت ترابا ومنها علـى سبيل المثال المتوحش الطيب هناك فراديس لم تكن لتقهر مثل العدالة أو تليدة مثل الحرية والعصرالذهبي ودنيا من الأحلام رمادها يصبح شعرا كما يصبح رماد الآلهة ميثولوجيا: هناك الفروسية وألف ليلة وليلة.. أما العوالم الأخرى التي تقصر عنها فهي تختلط جميعا تختلط أطلال مارب بأطلال ستاد نورمبرغ وذراعين من الحجارة تحملان النيران كان يقف بينهما هتلر ليناشد ألمانيا في الليل وتختلط باللهب العظيم في محاريب المجوس القديمة على جبال فارس وبغرفة خوفو الجنائزية في الهرم الأكبر وبالموت المتربص هنالك في براري الأفلاك والذي أطلعني على تشابك شرايين الأرض مثل الخطوط في كف أمي الميتة وأنا أنظر بتهكم عطوف إلى هذا الحلم المستهلك الذي من أجله جازفت بحياتي وأرى المتحف الصغير يستقبله مثلما كانت أزهار النسرين في حديقة كاهن في دمشق تخفي شاهد العقيق الذي رقد تحته محمد صلاح الدين وحدأة فردت جناحيها يعبر ظلها أمام الباب وكأنه حماية صامتة وبعيدة.
وفراشات يدعونا الحارس إلى تأملها وأتساءل هل جاءت من سبأ لتدبس على السدادات هنا¿ أنا أحب أن أتخيل بلقيس تنحني لسليمان بتحية شرقيةوعلى أنفها فراشة وأذكر ملكة كازامانس العجوز واقفة أمام شجرتها المقدسة تحت ندف الكابوك الحريرية في هذه الشمس نفسها نحن في الظهر جاء وقت الذهاب سينام المتحف عند أقدام الآبار الماردة في ظل أشجاره الجميلة لا رائحة فيها ولا قرود.
انفجرت في المدينة سلسلة من القنابل اليدوية صفارات الإنذار تدوي وصيحات الهرج في هذا السكون العتيق وتحملنا السيارة وقد نشر عليها العلم الفرنسي.
ازدحام وعربات إسعاف حيث ألقيت القنابل. الطريق الذي سلكناه لندور من حول التجمع شارع مسدود هناك شارع آخر. إذاعة القاهرة في المنزل أطلقتها الأجهزة بأقصى قوتها نزأر الآن بأن الإنكليز يعذبون المناضلين في سبيل الاستقلال. تعود إلى طريق المقر البريطاني اسمه »المعلا« ولكن الناس يؤثرون أن يقولوا »كيلومتر الجريمة« ثمة إذاعة إنكليزية تتحدث عن اليمن قبل أربع سنوات قام إمام اليمن المتحالف حديثا مع الجمهورية العربية المتحدة بقطع علاقاته مع ســــوريا وفعل ذلك بقصيدة طويلة ضـــد ناصر »فاضحك إذن يا راهب الصومعة« ..<
عدن – 1965 بعيون أديب فرنسي كبير
التصنيفات: ثقافــة