30 نوفمبر الحصاد الأكبر للنضال الوطني
اتخذت الحركة الوطنية أشكالاٍ مختلفة للنضال الوطني ضد الاستعمار والاستبداد في شمال الوطن وجنوبه حتى توجت بانتصار الشعب اليمني في 26 سبتمبر 1962م و30 من نوفمبر 1967م وخروج آخر جندي بريطاني من عدن.. وقدم الشعب اليمني قوافل من الشهداء على امتداد الساحة الوطنية لانتزاع حقه في الحرية والاستقلال والتصدي لكل المؤامرات الداخلية والخارجية والانطلاق نحو تحقيق الوحدة وبناء الدولة اليمنية الحديثة أمل ومستقبل الأجيال اليمنية..
استطلاع/عبدالله القاضي - علي السريحي
أفكار جديدة
يقول الدكتور أحمد صالح العبادي نائب عميد كلية الآداب بجامعة ذمار لقد تباينت أشكال النضال الذي اعتمدته الحركة الوطنية في جنوب الوطن لدى أحزاب ما قبل ثورة 14 اكتوبر وأحزاب مرحلة الثورة..
فأشكال النضال التي برزت لدى أحزاب ما قبل الثورة لمقارعة الاستعمار تمثلت بتوزيع المنشورات وإصدار البيانات والمظاهرات والاضطرابات وترديد الشعارات المناهضة للاستعمار.. إلخ.. وهي بلا شك أساليب غير مجدية تماماٍ لإخراج المستعمر من جنوب الوطن. أما أحزاب مرحلة الثورة التي بدأت تتشكل منذ النصف الأول من الخمسينيات في جنوب الوطن فقد اختلفت عن الأحزاب السابقة من حيث آلية عملها والأشكال التي اعتمدتها لمقارعة الاستعمار وذلك لأن هذه الأحزاب كانت امتداداٍ لأحزاب قومية عربية أو أممية نقلت إلى اليمن فكراٍ جديداٍ وآيدلوجية جديدة تمثل قفزة نوعية بالمقارنة مع الأفكار والآيديولوجيات التي كانت سائدة في اليمن من قبل حيث جاءت هذه الأحزاب بأفكار وآيدلويوجيات جديدة كانت تمثل المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي كان سائداٍ في المنطقة العربية والعالم آنذاك وبالطبع كان هذا المستوى أكثر تطوراٍ من العلاقات القبلية التي كان يعيشها المجتمع اليمني في ذلك الوقت كما أن الأحزاب نقلت إلى اليمن تراكمات وخبرات العمل السياسي والحزبي في بلدان عربية ذات تجربة أطول زمنياٍ وأكثر نضجاٍ فضلاٍ عن خبرات وتجارب أحزاب غير عربية.
وقد أدركت هذه الأحزاب أن مهمتها الأساسية في جنوب الوطن هي طرد قوات الاحتلال وتحقيق الاستقلال كخطوة على طريق إعادة توحيد التراب اليمني وكانت هذه الأحزاب تدرك أن تحقيق هذه الغاية لا يمكن أن يتم من خلال الأساليب التي اتبعتها أحزاب ما قبل الثورة من خلال الإضرابات والمظاهرات والمنشورات والبيانات فالاستعمار الذي احتل جنوب الوطن بالقوة لا يمكن أن يخرج إلا بالقوة ولهذا فإن هذه الأحزاب اختارت أسلوب العمل السري وأسلوب الكفاح المسلح لطرد المستعمر من جنوب الوطن ومن تلك الأحزاب حزب البعث العربي الاشتراكي والاتحاد الشعبي الديمقراطي وحركة القوميين العرب.
ولكن ينبغي علينا أن نذكر هنا أنه على الرغم من أن هذه الأحزاب قد طرحت موقفاٍ سياسياٍ جديداٍ في التعامل مع الاستعمار إلا أن موقفها من الكفاح المسلح حين بدأ فعلاٍ لم يكن موقفاٍ واحداٍ كما أن هذه الأحزاب وإن كانت قد نقلت إلى اليمن أفكاراٍ وآيديولوجيات وأساليب عمل سياسي جديدة فإنها قد احضرت أيضاٍ إلى اليمن الخلافات التي كانت قائمة بينها في الساحات العربية الأخرى.
تبلور الحركة الوطنية
وأشار الدكتور العبادي إلى أن الحركة الوطنية بصورتها القادرة على التصدي للاستعمار في جنوب الوطن المحتل قد ظهرت متأخرة بفعل مجموعة من الأسباب التي ساهمت في تأخيرها.. منها: عمق التجزئة وضعف البنية الاقتصادية والاجتماعية والعضوية التي كانت سائدة في العمل الوطني والافتقار إلى قيادات قادرة على الحركة والتركيز الشديد في العمل الوطني على (عدن والمكلا) فضلاٍ عن الدور السلبي الذي لعبته البرجوازية في جنوب الوطن وفشلها في الاتفاق على شكل الدولة ومكانها ذلك أن تلك البرجوازية إنما نشأت في أحضان الاستعمار وارتبطت به ارتباطاٍ عضوياٍ يضاف إلى ذلك الدور الذي قام به الاستعمار في تطويع البرجوازية في نشر الثقافة الاستعمارية والعمل على بث المشاكل بين القبائل في إطار سياسة (فرق تسد) التي سلكها الاستعمار في جنوب الوطن.
ويمكننا القول أن الحركة الوطنية قد تبلورت في جنوب الوطن منذ مطلع الخمسينيات من القرن العشرين وقد ساعدت مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية في بلورة الحركة الوطنية.
من العوامل الداخلية: إضرابات المزارعين تعبيراٍ عن وضعهم السيئ عام 1949م والتحرك العمالي المعبر عن استياء العمال من المعاملة التي كانوا يلقونها من أصحاب الأعمال الأوروبيين والهنود والانتفاضات القبلية التي قاومت الاستعمار والحكام المحليين (السلاطين) والتي شملت عدة مناطق بشكل مكثف منذ (1918 – 1950) وكذا الحركات الثلاث التي أدت إلى تكوين حزب الرابطة في ما بعد وهي حركة الوحدة الحضرمية وحركة العوالق وحركة لحج والدور البارز الذي قام به المثقفون من خلال الصحافة والنوادي والتي كانت بمثابة منابر للتوعية. ومن ضمن الانتفاضات المسلحة التي قاومت السلطتين الاستعمارية والمحلية (السلاطين) من أجل التغيير انتفاضة »بن عبدات« عام 1945م التي قامت في حضرموت.
ومن العوامل الخارجية التي بلورت الحركة الوطنية في جنوب الوطن حركة الأحرار اليمنيين التي تأسست عام 1944م والتي أخذت تعارض الحكم الإمامي في شمال الوطن وأصبح لها نشاط متزايد في (عدن) من خلال صحيفتها وكتاباتها واتصالاتها فقد لعبت دوراٍ بارزاٍ في بلورة الحركة الوطنية في جنوب الوطن ومن ضمن العوامل الخارجية شجب المؤامرة الصهيونية عام (1948م) والتي تحمس لها الشباب العائدون من الدراسة في الدول العربية وكذا قيام ثورة (1952م) في مصر وتأثيرات الحرب العالمية الثانية والتي حملت بذور القضاء على الاستعمار وأعوانه.
على أية حال لقد تبلورت الحركة الوطنية في جنوب الوطن في مجموعة من الأحزاب والتنظيمات التي تشكلت في عدن كان أبرزها حزب رابطة أبناء الجنوب العربي وحزب الشعب الاشتراكي الذي انبثق عن الحركة العمالية النشطة في عدن التي كانت قد تولت قيادة الحركة الوطنية بدءاٍ من عام (1955م) ولكن الخطأ القاتل الذي وقع فيه حزب الشعب الاشتراكي أنه لم يؤيد الكفاح المسلح عند انطلاق ثورة 14 اكتوبر 1963م على أيدي مقاتلي الجبهة القومية وكان ذلك الحزب يؤيد النضال السلمي حتى انسحاب الاستعمار وينبغي علينا أن نؤكد أن الجماهير كانت تتوق إلى طرد المستعمر البغيض وتوحيد شطري الوطن الواحد وهذه الغاية والشعور الوطني الوحدوي قد لعب دوراٍ في صعود نجم هذا الحزب أو ذاك.
اعتماد الكفاح المسلح
ومنذ النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين تشكلت في جنوب الوطن خلايا وحلقات لأحزاب جديدة اتخذت أسلوب العمل السري في مقارعة الاستعمار والحكام المحليين (السلاطين) الذين كانت مصالحهم تتطابق كلياٍ مع مصالح الاستعمار وهذه الأحزاب هي: حزب البعث العربي الاشتراكي والاتحاد الشعبي الديمقراطي وحركة القوميين العرب.
وقد رأت هذه الأحزاب أن المعركة النضالية لطرد الاستعمار ليست في شكلها الحاسم الأخير معركة إضرابات ومظاهرات فحسب وإنما هي معركة كفاح مسلح عنيد لا يلين ولا يهادن وهي معركة دماء وبطولات وأعمال فدائية لا تراجع فيها لذلك نادت حركة القوميين العرب منذ عام 1959م إلى أسلوب الكفاح المسلح وجعلته شعاراٍ لها.
وعندما فشلت حركة القوميين العرب في إقناع حزب الشعب الاشتراكي بإعلان الكفاح المسلح اتخذت عدة خطوات تمكنها من إنجاز الثورة المسلحة منها: الإعداد والتركيز على ضرورة بدء الكفاح المسلح والحوار مع مصر والاستفادة من تواجدها في شمال الوطن آنذاك لدعم العمل المسلح مادياٍ ومعنوياٍ وإقامة جبهة تتولى مهام المرحلة وانضمام كافة القوى الثورية إلى تجمع الثورة.
الذئاب الحمر
وفي 24 فبراير 1963م عقد بدار السعادة في (صنعاء) مؤتمر القوى الوطنية حضره أكثر من مائة ممثل للوطنيين المستقلين وممثلي (الضباط الأحرار) وقادة حركة القوميين العرب وتوصل المؤتمر إلى اتفاق توحيد جميع القوى الوطنية في جبهة موحدة وفعلاٍ تم تأسيس الجبهة القومية في أغسطس 1963م وتكونت من خلال اندماج (سبعة) تنظيمات سرية أعلنت إيمانها بالكفاح المسلح وتم بإعلان الميثاق القومي وكان شعار الجبهة »من أجل التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية«
ولم تضيع الجبهة فرصة انطلاق شرارة انتفاضة جبال ردفان في 14 اكتوبر 1963م فسارعت (الجبهة) إلى تبني الانتفاضة وعندما استشهد الشيخ (راجح غالب لبوزة) واختلف أبناء ردفان على من يتولى القيادة بعده سارعت الجبهة إلى إرسال الشيخ عبدالله المجعلي ليتولى قيادة المقاتلين بدلاٍ من لبوزة وواصل المقاتلون التصدي للقوات الاستعمارية حيث اعتمدوا أسلوب حرب العصابات وكان أولئك المقاتلون متمرسين في القتال وحمل السلاح منذ نعومة أظافرهم وكانوا يجيدون فن القنص مع مقدرتهم الرائعة في المتابعة وكانوا يقومون عادة بغارات وغزوات خاطفة كما كانوا يغيرون أماكنهم في الجبال بسرعة ولمسافات طويلة ولذلك كان يصعب على المستعمرين القبض عليهم كما أبدى أولئك المناضلون شجاعة بالغة أثناء القتال تحت قصف المدفعية الثقيلة والطائرات وأمام تلك الشجاعة المتناهية التي أبداها أبطال ردفان وأساليب قتالهم للمستعمر فقد أطلق عليهم الاستعمار تسمية »ذئاب ردفان الحمر«
وبعد عدة أسابيع فقط من انتفاضة ردفان (14 اكتوبر 1963م) نشطت الأعمال الفدائية المهاجمة لبيوت الضباط الإنجليز ونواديهم وقد استعمل الفدائيون القنابل اليدوية ومدافع البازوكا وقد حاولت السلطات الاستعمارية الحد من نشاط الفدائيين في عدن وأعلنت حالة الطوارئ وقامت بعمليات اعتقالات ومداهمات مكثفة ولكن الفدائيين استخدموا مختلف الأساليب للتخفي بمهارات عجيبة مثل ارتداء الأقنعة وتغيير أرقام السيارات وانتحال صفة شخصيات رسمية وقام فدائيو الجبهة القومية بإرسال إنذارات إلى جميع عملاء مخابرات الاستعمار والتوسع في تفجير منازلهم ونواديهم وأماكن تواجدهم ومنشآتهم العسكرية حتى أصيب المستعمر بالهلع جراء اتساع نطاق الثورة التي شملت كل مؤسساتهم وأماكن تواجدهم…..
واستطرد الدكتور العبادي قائلاٍ: من المعروف أنه مثلما كانت فصائل الحركة الوطنية في جنوب الوطن تؤكد على ضرورة النضال الثلاثي من أجل »إسقاط حكم الإمامة في شمال الوطن وتحرير الجنوب من الاستعمار وإعادة توحيد اليمن«.. فإن الثورة الأم 26 سبتمبر وضعت من بين أهدافها الستة تحقيق الوحدة اليمنية حيث نصت هذه الأهداف على »التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما« و»العمل على تحقيق الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة«.
وانطلاقاٍ من ذلك فإن المواطنين في جنوب الوطن فرحوا وسعدوا كثيراٍ لقيام ثورة 26 سبتمبر واعتبروها ثورتها فشعبنا في جنوب الوطن رأي في ثورة 26 سبتمبر ثورته ورأى في ارتفاع علم الحرية والجمهورية في صنعاء شارة لارتفاع علم الحرية في عدن وتعبيراٍ عن صدق مشاعرهم المؤكدة لذلك اندفع آلاف المواطنين من جنوب الوطن إلى شماله للدفاع عن ثورة 26 سبتمبر وانخرطوا في صفوف الحرس الوطني الذي تشكل بعد قيام الثورة لهذا الغرض واشترك أبناء جنوب الوطن إلى جانب إخوانهم في شمال الوطن في القتال لحماية الجمهورية الوليدة.
وينبغي التذكير في هذا الصدد بأن أولئك الذين أطلقوا شرارة ثورة 14 أكتوبر في جبال »ردفان« عام 1963 كانوا قد اشتركوا في الدفاع عن ثورة سبتمبر وكانوا راجعين للتو من شمال الوطن بعد أن أدركوا أن أفضل وسيلة للاستمرار في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر هي فتح النار على الاستعمار في جنوب الوطن وتحريره من نير الاستعمار.
وكانت ثورة 14 أكتوبر بذلك ليس فقط استمراراٍ لثورة 26 سبتمبر الأم وإنما امتداداٍ أكثر تطوراٍ ومرحلة أكثر جذرية في مسار الثورة اليمنية من حيث طموحها ونضالها من أجل اقتلاع الاستعمار من جذوره وتحقيق التحرر الوطني الكامل منه ومن ركائزه الرجعية في جنوب الوطن.
وبذلك نجد أنه مثلما كان شمال الوطن عمقاٍ استراتيجياٍ لانطلاق ثورة جنوب الوطن فإن جنوب الوطن كان ملجأ لمناضلي ورموز حركة الأحرار اليمنيين الذين فروا من ظلم وجور الإمامة إلى جنوب الوطن.
وعندما بدأ الكفاح المسلح لطرد الاستعمار من جنوب الوطن بعد تشكيل الجبهة القومية افتتح في تعز مكتب للجبهة القومية وتم بث برامج إذاعية موجهة إلى جنوب الوطن وعلى أرض شمال الوطن تم إنشاء معسكرات لأجل التدريب العسكري لأنصار الجبهة القومية وأخذت العناصر الوطنية في شمال الوطن ترسل الأسلحة سراٍ إلى الجنوب كما احتضنت العاصمة صنعاء بدار السعادة في 24 فبراير 1963م مؤتمر القوى الوطنية الذي حضره أكثر من مائة ممثل للوطنيين المستقلين وكان من ضمنهم الشيخ راجح لبوزة الذي قاد انتفاضة 14 أكتوبر في جبال ردفان وتم في المؤتمر تشكيل جبهة موحدة من جميع القوى الوطنية تؤمن بضرورة الكفاح المسلح لطرد الاستعمار.
وفي بداية عام 1964 توالت في وصولها إلى جبال ردفان القوافل الأولى من الأسلحة من شمال الوطن لدعم صمود أبناء ردفان كما نشطت الإذاعتان في شمال الوطن في صنعاء وتعز في شن حملتهما الدعائية في التنديد بإرهاب المحتلين مهيبة بسكان جنوب الوطن النهوض إلى الكفاح المسلح واقتلاع الاستعمار.
تأسيس الجبهة القومية
المعروف أن الجبهة القومية عندما تأسست كانت قد تشكلت من عدد من التنظيمات ولم يكن هناك إجماع داخل حركة القوميين العرب على بدء الكفاح المسلح ضد الاستعمار بل كان قحطان الشعبي »الأمين العام للجبهة في ما بعد« يميل إلى الكفاح السياسي ولكن ذلك الخلاف انتهى بمجرد قيام الثورة ولكن هناك خلافات برزت بعد قيام الثورة تمثلت في:
أ- الخلاف مع شيوخ القبائل الذين أرادوا انتهاز الفرص عام 1963 1964 والاستئثار بالنصيب الأكبر من موارد الجبهة القومية من مال وسلاح لدعم مراكزهم ومصالحهم الشخصية.
ب- الخلاف بين حركة القوميين العرب و المنظمات الأخرى ضمن الجبهة القومية.
ج- الخلافات الآيديولوجية والتنظيمية (1963-1966) التي تعرضت لها الجبهة القومية في الفترة الفاصلة بين تاريخ تأسيسها وتاريخ الدمج القسري الذي حدث مع منظمة التحرير في 13 يناير 1966م.
د- الخلاف مع جمال عبدالناصر.
هـ- الحرب الأهلية أو حرب الجبهتين »الجبهة القومية وجبهة التحرير« وهي الحرب التي أدت بعد ثلاث جولات دموية إلى تصفية جبهة التحرير واعتقال أو هروب قاداتها وكوادرها.
رياح التغيير
من جانبه يقول المناضل منصور عبدالله حسين الرخم من مناضلي حزب جبهة التحرير عضو المجلس المركزي لمنظمة مناضلي الثورة اليمنية ومحاربيها القدامى: إن الثلاثين من نوفمبر جاء نتيجة ومحصلة لجهود متواصلة من النضال الوطني ومحطات كثيرة مرت بها الحركة الوطنية على امتداد الساحة اليمنية من أجل التحرر من الاستعمار والاستبداد وإقامة الدولة اليمنية الواحدة والحديثة.. وقد مرت الحركة الوطنية بمحطات ومنعطفات هامة واكبت حركات التحرر العربية والعالمية.. وعندما أقول أن الحركة الوطنية مرت بمراحل زمنية ومحطات مختلفة فإنني استشهد هنا بإحدى تلك المحطات – بحسب ما تسعفني به الذاكرة – والتي تعتبر من أهم المتغيرات في السياسة البريطانية في الجنوب المحتل والمتمثلة في الفترة الزمنية التي تلت اتفاقية التعاون بين بريطانيا وحكومة الإمام في شمال الوطن وبموجبها اعترفت الإمامة بسلطات الاحتلال على الجزء الجنوبي من الوطن ومن خلالها قام المستعمر بتكريس وجوده وإحكام قبضته على بقية السلطنات والمشيخات في الجنوب من خلال عقد الاتفاقيات مع قادة هذه السلطنات والمشيخات والتي تفرض الاستشارة البريطانية عليهم وعدم الخوض في أي شأن إلا بموافقته وقد كان آخر تلك الاتفاقيات مع سلطنة العبدلي وفي هذه المرحلة سعت بريطانيا حثيثاٍ إلى إنشاء بعض المباني الخدمية وبعض الصناعات الخفيفة لصناعات المياه الغازية والزيوت والصابون وغيرها بالإضافة إلى إنشاء مصفاة للبترول في عدن الصغرى وذلك قبيل تأميم الدكتور مصدق البترول في إيران في يوليو 1957 وكذا إنشاء مصنع للملح وإنشاء خطوطه جوية للطيران وتطوير بعض المهن والحرف اليدوية كأعمال النجارة وغيرها حيث هيأت الظروف لنشوء كثير من النقابات والاتحادات العمالية والمهنية والتي تأثرت بالأفكار التحررية ورياح التغيير التي حملتها الثورة العربية الأمر الذي ساعد على زيادة الوعي في الوسط العمالي والجماهيري للنضال من أجل الحرية والاستقلال وتحرير الوطن المغتصب.. وقد شهدت الفترة الواقعة بين 1936-1959 العديد من الفعاليات النضالية والانتفاضات الشعبية شملت مختلف مناطق الجنوب ومنها العوالق العليا والسفلى وقبائل ردفان والصبيحة وحضرموت والعواذل والمهرة والشعيب والضالع وحالمين وبيحان ويافع والواحدي والفضلي تركزت معظمها بين عامي 1956 و1957م.
زخم نضالي
وأضاف: إن هذه الانتفاضات أفرزت وعياٍ سياسياٍ وزخماٍ نضالياٍ شكل نقلة نوعية ودفعة قوية لعمل تلك التجمعات والجمعيات والاتحادات والتنظيمات السياسية ومنها على سبيل المثال: الحزب الوطني القعيطي والجمعية العدنية والنادي الشعبي اللحجي ومؤتمر عدن للنقابات الذي وحد النقابات الست وحزب رابطة أبناء الجنوب والحزب الوطني الاتحادي.. هذه التشكيلات وإن كانت تتسم بالطابع المناطقي والجهوي وتعتمد على مطالب آنية وفئوية ولا تمتلك برنامجاٍ سياسياٍ وتفتقر إلى أبسط مقومات العمل التنظيمي ولا ترقى إلى المستوى الذي تطمح إليه الطلائع الوطنية من الشعب والحركة الوطنية إلا أنها كانت شكلت حالة فاعلة ومؤثرة في مسار العمل النضالي الذي بات يهدد ويقوض الوجود الاستعماري في الجنوب.. وبالمقابل بذل الاستعمار جهوداٍ كبيرة لتطويع وإخضاع هذا الزخم الجماهيري والسياسي والشعبي وسعى حثيثاٍ لإفشال كل محاولة لنشوء الأحزاب والتنظيمات الوطنية والتحررية التي تحمل مشروعاٍ وطنياٍ للتحرر والاستقلال حيث كانت السلطات البريطانية تتدخل في كثير من شؤون تلك الأحزاب والحركات بطرق مباشرة وغير مباشرة من خلال أساليبها المعهودة المعتمدة على سياسة »فرق تسد« والاستفادة من بعض العملاء والجواسيس والركائز الموالية لها كما عمدت في هذا الصدد إلى محاولات تشكيل الاتحاد الفيدرالي في 11 فبراير 1959م وذلك بعد التمهيد له بالانتخابات التشريعية في 1955 قبيل العدوان الثلاثي على مصر في 1956م.. وأمام هذه المخططات سعت العديد من النقابات والاتحادات وطلائع الشباب المثقف وكذا بعض العناصر المنشقة عن حزب الرابطة إلى تشكيل الجبهة الوطنية المتحدة والتي قامت بنشاط شعبي وجماهيري واسع يهدف إلى مقاطعة الانتخابات.. وفي عام 1959 أْعلن عن تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي وفي أكتوبر 1957م تم تشكيل حزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي الذي ضم إلى قوامه العديد من نقابات عدن التي تأسست في 3 مارس 1956م.. الأمر الذي يجعلنا نستطيع القول أن العام 1959م شكل منعطفاٍ تاريخياٍ في مسار الحركة الوطنية من خلال رفدها بعدد كبير من الشباب الواعي والطلاب العائدين من مصر والجزائر وسوريا والعراق وغيرها بالإضافة إلى كوكبة من الطلائع المثقفة والنقابيين والأدباء والصحفيين وغيرهم.
واحدية النضال
ورغم الانتفاضات والحركات الشعبية التي رافقت مسيرة النضال ضد المستعمر ولا سيما منذ وطأت أقدامه تراب الوطني الغالي وتصعيد العمل الثوري والنضال خلال الفترة 1934-1959 الذي تواكب مع نمو الزخم السياسي والمد الثوري العربي والوطني فقد شكلت ثورة 26 سبتمبر 1962م في شمال الوطن التي أطاحت بأعتى حكم متخلف ومستبد منعطفاٍ تاريخياٍ في مسار النضال الوطني لتحقيق الاستقلال في الجنوب وانطلاق العمل الثوري المسلح ضد الاستعمار على أيدي الطلائع الثورية التي هبت للمشاركة في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر وعادت لتفجير الثورة في جنوب الوطن من جبال ردفان الأبية بقيادة المناضل راجح بن غالب لبوزة في 13 أكتوبر وإعلان الثورة في 14 أكتوبر في مختلف مناطق الجنوب وحينها كنت قد وصلت إلى مدينة البيضاء عبر مكيراس للالتحاق بجبهات القتال بعد دورة تدريبية تلقيتها مع عدءا من المناضلين وكان في استقبالنا هناك الفقيد عوض الحامد والفقيد محمد علي هيثم »الهندي« وآخرون وكنت ضمن مجموعة ضمت عدداٍ من أبناء دثينة وآل فضل وعدداٍ من أبناء عدن أذكر منهم – على سبيل المثال – عمر حسين الموقح ومحمد ناصر مقط والرباشي وعلي قاسم مسعود الخالدي وآخرين حيث كانت جبهات القتال تسمى باسم المناطق مثل جبهة ردفان وجبهة حالمين وجبهة دثينة »فحمان« وجبهة العواذل والشعيب وجبهة عدن وغيرها وقد رحلنا جميعاٍ إلى مدينة تعز لنتلقى التدريب اللازم حيث كان قصر صالة مقراٍ لتدريب الفدائيين والمناضلين لتحرير الجنوب حتى توج هذا النضال الذي شاركت فيه مختلف فئات وفصائل العمل السياسي بتوقيع وثيقة الاستقلال في الـ30 من نوفمبر 1967م وخروج آخر جندي بريطاني من عدن.
انحراف المسار
ويواصل المناضل الرخم حديثه قائلاٍ: وبقدر فرحتنا بالاستقلال والتحرير وفي الوقت الذي كانت فيه روائح الجثث والقتلى تملأ الشوارع ومئات الجرحى في المستشفيات وآلاف المعتقلين في السجون بالإضافة إلى المشردين عشية الاستقلال فقد تسلمت الجبهة القومية السلطة منفردة وضربت المؤامرة روح الثورة باقتتال الإخوة وسارت الأمور بعكس ما كان مخططا لها حيث تسارعت الأحداث باتجاه يعزز الفرقة ويكرس تمزيق الوطن من خلال قيام حركة 5 نوفمبر 1967 في شمال الوطن وخلق نظام في الجنوب مغاير لنظام الشمال وتبنيه نهجاٍ سياسياٍ لا يقره شرع ولا دين.. وإن كنت أخاف أن أقول أن أعداء الوحدة اليمنية مازالوا يراهنون على ذلك ولكني أمني النفس وأقول »أكيد وألف أكيد بأن القطار قد فاتهم وأن الوحدة قد ترسخت وأن جيلها قد بلغ سن النضج بعد عشرين سنة من قيامها«.. وأرى من واجبي أن أنبه كل أبناء الشعب اليمني بأن الوحدة اليمنية ليست ملكاٍ لأي كان من أفراد وقوى المجتمع وهي حق فقط يمتلكه شهداء الشعب اليمني الذين قدموا أرواحهم فداء للثورة والوحدة وأن الوحدة لا يملك الحق فيها الحزب الحاكم أو من تلاه في الحكم ولا المعارضة ولا يمكن الرضوخ لأي إدعاءات مهما كانت وتحت أي مسميات أو مبررات ولا تقبل فيها حتى الحوارات تحت مسمى الديمقراطية والرأي والرأي الآخر لأن الديمقراطية والرأي والرأي الآخر جاءت لتشكل دعماٍ لانتصارات الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر وأهدافها الخالدة التي تشكل الوحدة اليمنية أعظم منجزاتها.
إرادة شعب
وأكد المناضل أحمد حسين غوث الدين أن الحركة الوطنية اعتمدت شتى الأساليب والسبل لتحرير الجنوب المحتل ومنها على سبيل المثال إصدار وتوزيع المنشورات والمطبوعات المحرضة ضد الاستعمار البريطاني والتوعية بأهمية النضال وتحقيق الاستقلال والدعوة إلى رص الصفوف وتوحيد الكلمة بالإضافة إلى تبني حملات التوعية في صفوف الجماهير والشباب وجمع الأموال والدعم لشراء الأسلحة وتوزيعها على الشباب المناضلين ومن ثم القيام بتنظيم هجمات مباغتة على مواقع الجيش البريطاني في أكثر من مكان وفي أوقات مختلفة الأمر الذي أدى إلى توجيه ضربات موجعة في صفوف جيش الاحتلال البريطاني وإيصال صوت الحركة الوطنية والمقاومة إلى المحافل الدولية والدوائر الاستعمارية والمنظمات الأممية.
وعزا المناضل غوث الدين أسباب انتصار الحركة الوطنية في معركة الاستقلال وهزيمة الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس إلى التلاحم الوطني بين أبناء الوطن الواحد من أجل التحرر من الاستعمار والاستبداد والإرادة الصلبة للشعب اليمني التي قهرت كل الظروف وتغلبت على كل المصاعب والتحديات وأحبطت جميع المؤامرات حتى تحقق الاستقلال الناجز وبذلك أثبت اليمانيون أنهم أمام القضايا الكبرى والمصيرية موحدون ومتناصرون يتركون خلافاتهم الصغيرة والتفصيلية وراء ظهورهم انطلاقاٍ من حبهم لوطنهم وإيمانهم المطلق بواحدية الأهداف التي تخدم اليمن أرضاٍ وإنسانا.
وأشار إلى أن تكالب القوى المضادة للثورة اليمنية والاستقلال وتآمرها جعلها تتخذ كافة الوسائل المباشرة وغير المباشرة لإحباطها والقضاء عليها والمتمثلة بالقوى الاستعمارية وحلفائها الإقليميين وركائزهم في الداخل.. إلا أن الحركة الوطنية وطلائعها الثورية ومعها القوى الخيرة وحركات التحرر العربية والعالمية المساندة لحق شعبنا وأمتنا في التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار والاستبداد تمكنت من تحقيق النصر العظيم ليكتبه التاريخ بأحرف من نور وليظل رمزاٍ لإرادة الشعب اليمني وقدرته على انتزاع حقه في الحرية والاستقلال وحقه في رسم معالم مستقبله وتحديد طريقه في النهوض والتنمية واللحاق بركب الشعوب المتقدمة والولوج إلى فضاءات الحضارة المعاصرة بتجلياتها المختلفة..<