مع حلول شهر رمضان في كل عام يتسابق الناس على الطاعات ومع رحيل شهر رمضان ترحل الهمم والعزائم فترجح كفة التقصير لصالح الغفلة بين المسلمين.. ترى ما هي الأسباب التي تجعل الناس يقبلون في رمضان ويدبرون في غيره.. وما الفرق بين رمضان وبين سائر الأشهر.. وهل هناك حلول عملية تجعل سائر أشهر السنة عامرة بالطاعات مثل رمضان¿
تناقض
جميل أن نستقبل شهر رمضان بحفاوة وإقبال على الله تعالى بالطاعات.. حياة جميلة نعيشها كل عام خلال أيام وليالي الشهر المبارك فنرى الناس صائمون تركوا طعامهم وشرابهم وشهواتهم طاعة لله عز وجل استقبلتهم المساجد التي عانت قلة المصلين خلال الأشهر الماضية فتراها عامرة بالمصلين في أوقات الصلوات المفروضة أو النوافل كما تراها عامرة بمن يتلو كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار ولا ننسى أيضا أن النفوس الصائمة أقبلت على الله تعالى ببسط اليدين بالإنفاق وإطعام المساكين والمحتاجين سواء صدقات النافلة أو الزكاة المفروضة وفي أواخر الشهر المبارك كان الناس يترقبون أن يصيبوا ليلة القدر رجاء أن يفوزوا بأجر عبادة تزيد على ألف شهر فمن الناس من اعتكف العشر الأواخر ومنهم من اعتكف بعضها ومنهم من لم يستطع ولكن العامل المشترك بينهم أنهم جميعا يحبون الخير ولكن الهمم تتفاوت.. وهانحن أولاء نعيش أيام وليالي شهر شوال وقد ودعنا رمضان المبارك بالأحزان وما إن انتهى رمضان حتى عاد معظم الناس لما كانوا عليه من التقصير والنسيان.. فهاهي المساجد تشكو مرة أخرى من قلة عامريها بعد أن ازدانت فرحا في رمضان.. وها هو كتاب الله تعالى يشكو من الهجران ويذكرنا بأن الناس اتخذوه مهجوراٍ بعد رمضان..
أما المساكين فلا تسأل عن حالهم فقد باتت أواصر التعاطف والتراحم موسمية- إلا من رحم الله- فلا طعام يصل إلى البيوت ولا صدقة طرقت بابهم إلا في ما ندر.. وها هم السائلون على أبواب المساجد ولا يكادون يجدون من يمد لهم شيئاٍ يسيرا من الصدقة إلا من رحم الله تعالى..
شجون وآلام تعتصر في القلب على حالنا بعد رمضان.. ترى هل كنا نعيش وهماٍ في رمضان أم أنها فصول حكاية بدأت وانتهت أم أنها عادة نعيشها كل عام تمر علينا مرور الكرام دون أن نستفيد منها ونجعلها نقطة للتغيير إلى أفضل.. تناقض عجيب نعيشه ولا بد أن نعالجه.
كن ربانياٍ
الشيخ أسامة الأسطى خطيب مسجد الرشد برسلان يعتقد أن إقبال الناس على الطاعات وفعل الخيرات في رمضان يدلنا دلالة واضحة على أن الخير موجود في نفوس الناس وأن المسلمين يرجعون إلى أصل فطرتهم التي فطرهم الله عليها من الخير.. ثم يقول: لكن لا يعني هذا أن من يقبل على الله في رمضان دون غيره من الأشهر معذور أمام الله فالله عز وجل هو رب الشهور كلها.. سئل أحد التابعين: أيهم أفضل رجب أم شعبان فقال: كن ربانياٍ ولا تكن شعبانياٍ..
اعتقاد خاطئ
أما أسباب تراجع مستوى النشاط في العبادة والذي يصل إلى ترك الفرائض أو الجماعات فيعتقد (الأسطى) أن ذلك عائد إلى عدة أسباب منها اعتقاد بعض الناس أن باب التوبة مفتوح في رمضان دون غيره من الأشهر وأن استجابة الدعاء في رمضان دون غيره وهذا اعتقاد خاطئ يجعل الكثير من الناس ينتظرون شهر رمضان دون العمل في غيره من الشهور رغم أن باب التوبة مفتوح في الليل والنهار في جميع أشهر السنة..
الباب مفتوح
ويرى (الأسطى) أن علاج ظاهرة الفتور في العبادات والطاعات بعد رمضان يتمثل بالمعرفة الكاملة والثقة المطلقة بأن الله عز وجل يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات في كل الأحوال والأوقات فيبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها.
أيضاٍ باب الجود والرحمة وإجابة الدعاء مفتوحة في غير رمضان ففي الجمعة ساعة لا يوافقها عبد إلا استجيب له وكذلك نزول الله تعالى في الثلث الأخير من كل ليلة ليس خاصاٍ برمضان لكنه في كل ليلة من ليالي السنة فالباب مفتوح في رمضان وبقية الأشهر.. ولذلك كان لا بد على كل مسلم من الاستمرار في الطاعات بعد رمضان وكما هو معلوم فإن علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها فعلامة قبول التوبة استمرارها وعلامة قبول الصلاة والصدقة وفعل الخير في رمضان استمرار ذلك بعد رمضان ومن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد ولى وانتهى ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.. ثم ليعلم العبد أنه قد يأتيه الموت في أي لحظة فشتان بين من يأتيه الموت وهو في طاعة ومن يأتيه الموت وهو في معصية أو تارك لطاعة والأعمال بالخواتيم فما يدريني ويدريك أننا سندرك رمضان القادم حتى نتوب ونرجع فلا بد من العمل في كل وقت حتى نلقى الله وهو راضُ عنا.
الأعمال بالنيات
يعتقد الأخ عبدالله سعيد أن هناك عاملاٍ مهماٍ في الفتور وتراجع العبادات والفرائض بعد رمضان فيقول: إن نجاح أي عمل يكمن في كيفية تنفيذ هذا العمل ولعل ما نلاحظه من الانقلاب المفاجئ في الحياة الدينية لمعظم الناس بعد رمضان يرجع إلى الكيفية في أدائهم لشعائر رمضان من صيام وقيام وصدقات فالأعمال بالنيات فالله تعالى يقول:(كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).. فالناس يصومون ولكن كم هم الذين يتقون فالعلة تكمن في صدق الطلب والنية في العمل.. وقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك حين بين أن من قام رمضان إيماناٍ واحتساباٍ غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيماناٍ واحتساباٍ غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيماناٍ واحتساباٍ غفر له ما تقدم من ذنبه ولعل من تراجع وترك العبادات والجماعات لم يصم أو يقم رمضان إيماناٍ واحتساباٍ.. ولعل العبادات في رمضان وكانت من قبيل العيش في الواقع الاجتماعي دون الاهتمام بتصحيح النية ويدل على ذلك ما نلاحظه في شهر رمضان نفسه فنحن نلاحظ أن ليالي رمضان غير أيامه فكثير من الناس صائم في النهار تالُ للقرآن يصلي في المسجد ولكن حاله في الليل غير ذلك تماماٍ فتراه يعيش في غفلة بين الشاشات والقنوات وضياع الأوقات.
ولذلك نلاحظ تغير الحال مع ليلة العيد فقد ذهب الصيام وأتت الغفلة لتترك المساجد ويترك القرآن والصيام.. ربما إلى رمضان القادم..
تصحيح النوايا
ويضيف الأخ عبدالله قائلا: أعتقد أن أهم أساليب علاج هذه الظاهرة يتمثل في توعية الناس وتبصيرهم بحقائق الأعمال وبواطنها حتى لا تكون عباداتهم عادات وإنما عبادات صحيحة المقاصد والنيات.. وبعد ذلك سوف يجني الناس ثمار رمضان ولن يخرجوا منه إلا بالتقوى كما قال الله تعالى »لعلكم تتقون«.. ولعل وسائل الإعلام والخطباء والمرشدين والوعاظ يتحملون الجانب الأكبر من ذلك الدور المهم فهم من باب أولى أحق بأن يبينوا للناس أمور دينهم وحقائق عباداتهم التي توصلهم إلى الله عز وجل.. ولا أشك أبداٍ في أن الغفلة هي العدو الأول والداء العضال الذي يحول بين الناس وبين ربهم وبين الناس وبين معرفة حقائق دينهم.. ولو أفاق الناس من غفلتهم لما فاتتهم طاعة ولا ضاعت عليهم عبادة ولكانوا كل يوم أقرب إلى الله تعالى ولذلك كان لزاماٍ على الجميع العمل جاهدين على أن يعرفوا ربهم ويعرفوا دينهم ليسلكوا طريق النجاة.. ولو كان ذلك بعد رمضان في شوال وفي غيره.. بدلاٍ من انتظار رمضان القادم فالوقت لا يكفي..
أخيراٍ
هكذا أقبل علينا رمضان ثم ولى ورحل ونحن ما بين مقبل اجتهد في رمضان وأقبل على ربه بالطاعات وأخلص نيته لله فزاد قرباٍ من الله وفاز برمضان ومنا من اجتهد في رمضان ولم يخلص نيته لله تعالى فاجتهد في رمضان لأجل رمضان ولأجل عادة اعتاد عليها أو عْرف تلقاه من أسلافه فلما أفل رمضان أفلت معه الطاعات فتركها وأقبل على ما اعتاد عليه من قبل من التقصير واقتراف المعاصي..
ومنا من مضى عليه رمضان كغيره من أشهر السنة فلا هو اجتهد فأخلص ولا اجتهد فقصر فهو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام »رغم أنفه من أدرك رمضان ولم يغفر له«..
ولكن رغم ذلك جميعاٍ لا بد لنا أن نعي الحقيقة التي لا شك فيها وهي أن الله تعالى لا يرد من أقبل عليه أبداٍ في أي شهر وفي أي ساعة.. فلنبدأ من الآن وكأننا في رمضان مسارعين في التوبة وطاعة الله عاملين بأمره مجتنبين نهيه مقدمين رضاه على رضا من سواه ولن يخيب أبداٍ من أقبل على الملك الجليل الذي لا يرد السائلين وإن كانوا مقصرين..