عقدَ ونيف من الزمان مرِ على زيارتي الأخيرة لقاهرة المعز ..
مرت السنون تترى , وكأنها كانت في الأمس القريب جدا ٍ ..
غير أن القول المصري العبقري يصدق لامحالة : ” اللي يشرب من نيلك , لازم يرجع لك ” !!
وبرغم ” البلاوي ” التي صار النيل يزدحم بها , إلاِ أن مصر تظل ” هبة النيل ” بحسب المؤرخ العظيم هيرودوت ..
ولايدري أحد ماذا سيحل بهذا النيل – بل بهبة النيل – إذا تصاعدت تراجيدية الخلاف – بصدد مياه هذا النهر العظيم – بين دول المنبع ودول المصب .. وقد هالني تقرير نْشر مؤخرا ٍ في جريدة ” الأندبندنت ” اللندنية بقلم دانييل هاودن , يشير إلى هذا المشهد , منوها ٍ بأنه قد يكون أولى حروب المياه في العالم !!
( 1 )
وقد عادت بي الذاكرة إلى دراسة – صدرت قبل عدة سنوات – بتمويل من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية , أشارت الى أن المياه ستشهد تحديات في غاية الخطورة , في غير بقعة من البيضة الأرضية .. لاسيما في منطقة الشرق الأوسط وشبه الصحراء الأفريقية وجنوب القارة الآسيوية وشمال الصين ..
وتوقعت هذه الدراسة اشتداد حدِة الخلافات الأقليمية بشأن المياه مع حلول العام 2015م .. وفي الوقت نفسه , أصدرت منظمة الأمم المتحدة تقريرا ٍ تْحذر فيه من أزمة مياه عالمية بحلول العام 2030م !!
ومن سخرية القدر أن الدراسة ” تنبِأت ” بأن كميات النفط والغاز الكامنة في جوف الأرض ستكون أكبر من كميات المياه الجوفية .. ففي حين يتناقص المخزون المائي بصورة مرعبة , فإن 80 ٪ من النفط و 90 ٪ من الغاز سيكونان مازالا في جوف الأرض !!
بانوراما قاهرية
لعلِ هذه الفترة من أشد الفترات زخما ٍ في مصر .. وقد تكون أشدها على صعيد الأزمات في غير صعيد ..
فإلى جانب مشكلة النيل .. ثمة مشاكل في السياسة , وفي الاقتصاد , وفي الاجتماع , تنعكس جميعها على المسرح الإعلامي المصري الذي صار جبروتا ٍ حقيقيا ٍ .. أكان في نطاق الإعلام الفضائي .. أو على صعيد الصحافة المقروءة ( الورقية والإلكترونية ) ..
إن موجات المعارضة باتت تتدحرج مثل كرات الثلج , وتخرج من الصالونات إلى الشوارع .. وقد صارت ثمة حركات معارضة عدة
( 2 )
تجاوزت الاحزاب ذاتها , مثلما تجاوزت الخطابات والمنابر التقليدية ..
وهذه سمة محسوبة لصالح الديمقراطية في مصر .. فلم تشهد مصر معارضة كالتي تشهدها اليوم .. وفي المقابل لم تشهد حرية وتعددية وشفافية أيضا ٍ كالتي تشهدها اليوم !
إن رفض التوريث , من قبل أن يحدث .. وتأييد البرادعي , من قبل أن يترشح للرئاسة .. صورتان واضحتا الملامح في هذا المشهد .. وهو مالم يعرفه الآباء الذين شهدوا الفصول الماضية من تاريخ مصر السياسي والثقافي والاجتماعي ..
حتى في رصيف الصحافة , جاء اليوم الذي تنافس فيه صحيفة خاصة مثل ” المصري اليوم ” عملاق الصحافة المصرية والعربية ” الأهرام ” في المادة والسبق الصحافي والتميز المهني , وهو الأمر الذي انعكس على صعيد التوزيع والانتشار بصورة لافتة !
وقد تعلِمنا الكثير من مصر .. ولازلنا نتعلم .. وسنظل ربما الى ماشاء الله .. فالحيوية الخارقة التي يتمتع بها هذا البلد , بشعبه ومجتمعه وشارعه وظواهره سيتحول الى مؤشرات في غاية الأهمية – والخطورة أحيانا ٍ – في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية , للشعب العربي والمؤسسات العربية , في كل الوطن العربي تقريبا ٍ ..
وأذكر أننا – معشر الصحافيين اليمنيين – كنا نتجادل حول هذه القضية أو تلك الأزمة .. وحين يحتد الجدل يأتي سؤال من جهة ما : كيف عالج المصريون هذه القضية ¿! .. أو كيف حلْوا هذه الأزمة ¿!
( 3 )
من وقت لآخر وكلما اشتد الكرب في الضفة أو غزة تنبري بعض الأصوات التي تنتقص من الموقف – وحتى الدور – المصري تجاه القضية الفلسطينية..
حدث هذا حين شنت عصابات آل صهيون حرب الإبادة الأخيرة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة .. ثم راح البعض يرشق السفارات المصرية في عدة دول بالحجارة !!
ثم حدث هذا مؤخرا ٍ , إثر الجريمة البشعة التي اقترفتها العصابة الصهيونية ذاتها ضد ” أسطول الحرية ” .. وما استتبعه من موقف تركي متصاعد .. وقد ارتفع العلم التركي – بمئات النسخ – على أسطح البيْوت والمرافق في قطاع غزة .. فقال لي أحد الأصدقاء من المثقفين المصريين : كم حزِ في نفسي أن يغيب علم مصر عن هذا المشهد وفي هذا الوقت بالذات !!
والحق أنه لايمكن حتى للجاحد أن يتناسى للحظة واحدة أن أنهارا ٍ من دماء الفدائيين والأبطال الصناديد المصريين قد سْفحت قربانا ٍ قوميا ٍ على مذبح فلسطين .. ويظل اسم البطل الشهيد احمد عبد العزيز مْسطرا ٍ بحروف من عسجد على كل غصن زيتون وشجرة زيزفون في أرض الأنبياء .. وأمثال احمد عبد العزيز كثيرون كثيرون .
مؤخرا ٍ أحتفت القاهرة بالأديب اليمني الكبير الراحل علي احمد باكثير ..
( 4 )
وكم كنت أتمنى أن يكون هذا الاحتفاء معقودا ٍ في مدينة تريم لأنها عاصمة الثقافة الإسلامية لهذا العام لأنها حضرمية يمانية تغدو جديرة باحتضان مئوية هذا الأديب الحضرمي اليماني الفذ الذي أثرى المكتبة الأدبية العربية والإسلامية بكل نفيس في شتى فنون الإبداع الادبي ..
غير أن ” البيت واحد ” بالنسبة لباكثير في مصر واليمن .. فقد كانت عصارة إبداع هذا الأديب من نصيب مصر وكانت أزهى فترات حياته وبصماته في أرض الكنانة .. فقد كان مصريا ٍ قْحِاٍ في نظر كل المصريين .. حتى أن الأديب الكبير نجيب محفوظ لم يعرف أن باكثير يمني إلاِ في فترة لاحقة من معرفته به , وهكذا حال عديد من المثقفين وأعداد عدة من القراء المصريين والعرب !!
وقد قال باكثير يوما ٍ : “انا على يقين ان كتبي واعمالي ستظهر في يوم من الأيام وتأخذ مكانها اللائق بين الناس .. ولهذا فأنا لن أتوقف عن الكتابة ولا يهمني أن يْنشر ما اكتب في حياتي “.
فقد كان حظه قليلاٍ من الانتشار والتقدير في اليمن على العكس مما لقيه في مصر وفي سواها وعلى الباحث أن يجول في كل مقررات ومناهج التعليم في هذا البلد ليعرف المساحة التي يحتلها أدب باكثير – على تنوعه ووفرته-في هذه المناهج .. وسيدرك حينها الفاجعة !!
ولو أنك سألت اليوم جيلاٍ بكامله عمِا يعرفه عن هذا الأديب الفذ لجاءتك الاجابة مْخيبة لكل الآمال !.. وقد أجتهدت شخصياٍ في هذا الموضوع – ولو على نطاق محدود في كل الأحوال – فكانت صدمتي كبيرة !!
وقد سألتْ بعض الأصدقاء الأدباء في حضرموت عن مصير منزله في سيئون -المعروف باسم دار السلام- والذي سبق لفخامة الرئيس – منذ عدة سنين – التوجيه بشرائه وترميمه ومنحه لفرع اتحاد الأدباء في سيئون ..إلاِ إنني سمعتْ إجابة ٍ لا تِسْر البتة!!
( 5 )
البوصلة المصرية
* مايحدث في الساحة الثقافية المصرية دائما ينعكس بالضرورة على كل الساحات العربية ولو بدرجات متفاوتة .
والحق أن الاحداث المصرية تؤثر دائماٍ في الساحات العربية عموماٍ ليس ثقافياٍ فحسب إنما على كل الأصعدة والسياسية منها بالذات غير أن المضر في هذه الظاهرة أن العرب يتأثرون بالاحداث السيئة أكثر من تفاعلهم مع الاحداث الطيبة .. أو بمعنى أدق : إذا قْمعت الحريات أو صودرت الكتب أو قْهرت الصحافة في مصر فإن عدوى القمع وجرثومة المصادرة وفيروس القهر يعم كل بلاد العرب من المحيط إلى الخليج .. حتى في بيروت التي ظلت خيمة الحرية لعقود عديدة!!
والحكومات العربية تتخذ الحالة المصرية مثالاٍ ثابتاٍ أو أنموذجاٍ مقدساٍ في كل ما يتصل بالافعال الضارة بالديمقراطية فقط .. أما في ما يتعلق بدفع الممارسة الديمقراطية إلى الامام فلا ثمة مثال ولا أنموذج يحتذى به لا في مصر ولا في هونولولو! .. بالرغم من أن تاريخ التجربة الديمقراطية المصرية وسجل الحريات العامة والابداعية في ارض الكنانة أكثر طولاٍ وعرضاٍ وعمقاٍمن تاريخ القهر وسجل القمع وتراث المصادرة .. غير أن الحكومات العربية أكثر ميلاٍ إلى أدوات العصر الحجري فالهراوة مازالت لها الأسبقية على القنديل!
وإذا كانت قيادات الديوان السياسي والإدارة الثقافية والاعلامية في مصر أكدت جميعها على أن الرقابة هناك لاتسري إلاِ على حالتين فقط: الإساءة إلى الاديان وخدش الحياء العام .. فإن الرقابة في جل – إن لم يكن كل – البلاد العربية تسري على عشرات وربما مئات الحالات .. وقد يأتي يوم إذا قال فيه الكاتب ان التفاحة »حمراء« يْتهم بأنه »شيوعي« .. وإذا زعم ان البرتقالة »صفراء« فإنه »إخواني« .. وإذا تحدث عن الحقول »الخضراء« قيل أنه عميل للعقيد القذافي!!
( 6 )
ليل القاهرة
* يأتي الليل .. فتنداح فيك مشاعر الحزن والأسى .. وتتقاذفك أحاسيس اللوعة والنوى وتصطلي في داخلك شتى الأشياء والحالات التي تحيلك إلى غابة الكآبة ..
إلاِ ليل القاهرة ..
ففيه تنقلب الأشياء المقرونة بالليل إلى أضدادها .. وتصير الحالات الكامنة في قاموسه على عكس ماتكون في الثبات .. أما المشاعر فتهاجر من اعشاش العادة إلى فضاءات التحول على صعيد السلوك أو في نطاق الإبداع على حد سواء ..
ليل القاهرة .. ظاهرة تخرج على قوانين الزمكان .. وعلى قواعد الأشياء وسوائد الحالات وعوائد الإنسان .. حتى أخال كائنات السماء تتقاطر كل مساء إلى القاهرة تغترف من ليلها ومن نيلها قبل أن تعود إلى الأيائك النورانية مترعة من سلسبيل ليس إليه سبيل إلاِ من باب زويلة أو قصر الشوق أو جامع السلطان حسن ..
وفي حضرة السيدة زينب يعتلي بك الوجد حتى يحط بك على كرسي الحلول قبل أن يعزم عليك البطل احمد عبد العزيز بكأس من شاي أو قرفة أو سحلب في مقهى الفيشاوي .. وماهي إلاِ هنيهات حتى تكون متحدثاٍ إلى نجيب محفوظ وشلة الحرافيش أو مصافحاٍ جمال الغيطاني ويوسف القعيد أثناء مرورك بهما – مصادفةٍ – و أنت تدلف إلى رواق خان الخليلي..
وفي القاهرة – ليلاٍ – لاتنام سوى الكوابيس .. والخفافيش وحشرات البق والعثة وصراصير الليل وضفادع المستنقعات ..
أما العشاق فلاينامون في ليل القاهرة ..
( 7 )
وأما الأطفال فلا ينامون في ليل القاهرة ..
وأما المبدعون .. وأما الحالمون بغدُ أجمل منسوج من صوف الحقيقة وحرير الأمنية .. فلا ينامون في ليل القاهرة ..
وقد خلق الله النهار للكد والعمل والليل للنوم والكسل .. إلاِ في القاهرة .. فقد خلق الليل لأعمال شتى خارج حدود الوظيفة السقيمة ولأفعال شتى خارج تضاريس المخدع المخادع ولأقوال شتى خارج قواميس الغيبة والنميمة والإشاعة ..
إن ليل القاهرة لايهبط عليك من أعالي ذرى المْقطِم كما هي عادات الليل في كل زمان ومكان يهوي مترنحاٍ من رؤوس الجبال .. إنما هو يصعد إليك مجنحاٍ كعروس نيلية مطرزة بسندس الدهشة الحالمة ومكللة بديباج النشوة العارمة ومحفوفة بألف ألف فرس بيضاء وألف ألف حديقة خضراء وألف ألف جندول مجندل بأطنان من العود والعطور والعنبر والبخور .. فإذا بها الليلة الثانية بعد الليلة الأولى بعد الألف ليلة.. خرجت من الكتاب والكتابة ودخلت في الروح والصبابة !!..
مصر 2010نيل َ تحت التهديد .. جيل َ ضد التوريث .. والليل يصعد مْجنøحا ٍ كعروس !
حسن عبد الوارث
التصنيفات: تحقيقات