ماتت جدتي.. كنت صغيراٍ بكي أبي كثيراٍ وأنا بكيت أكثر لم أبك في حياتي كما بكيت يومها.. جدتي كانت لي أماٍ وأباٍ مذ نفخت رياح الفرقة بين أمي وأبي بعد أشهر قلائل من أول صرخة أطلقتها.
ماتت جدتي وعلى مسافة غير بعيدة عن دارنا احتضنتها حفرة لأول مرة تغرب الشمس وأنا دون جدة من يومها كرهت القرية وكرهت عزرائيل الأعور أكثر.
– أنا أحب عزرائيل يا جدة.
– استغفر اله يا ولدي إنه ملك من ملائكة الرحمن يأمره فينصاع لأمره عز شأنه.
– أتعرفينه يا جدة¿
– لا… لا أعرفه انه لا يأتي لمخلوق إلا عندما يأمره الله بقبض روحه.
– وكيف هو¿
– لا أحد يعرف شكله لانه لا يْرى يقال بانه كان يأتي قديماٍ على هيئة إنسان فذهب يوماٍ إلى رجل قوي متمنطق بخنجر وما ان بلغه عزرائيل بانه بأمر الله لقبض روحه حتى عاجله بطعنة في احدى عينيه فأعوره ومن حينها أصبح عزرائيل الأعور يقبض على أرواح الناس دون أن يراه أحد.
جدتي أحبتني كثيراٍ ومنها تعلمت حب الناس..
جدتي لم تعلمني كيف لا أخطئ لأنها تخطئ والخطأ إنسان.. جدتي تحب كثيراٍ لكنها لا تخاف الموت مثلي..
– أنا أكره الموت يا جدة.
– ومن يحب الموت يا ولدي¿.. لكن الموت حق.. ولكل أجل كتاب.. نم الآن يا ولدي!
– لا استطيع.. أخاف أن يأتيني عزرائيل وأنا نائم.
– لن يأتيك عزرائيل إن شاء الله..¿
– ربنا يعطيك طول العمر يا ولدي بحق الله وملائكة عرش الله بحق الجمعة الجامعة والدعوة عند الله سامعة ليتها علمتني أن أكرر القول ثلاث مرات قبل أن أنام:
»اللهم إني أرقد فوق هذا الفرش تحفظنا يا رب العرش«..
في ليلة من الليالي حكت لي جدتي هذه الحكاية:
»سافر رجل بصحبة جمله للتسوق من سوق بعيد عن قريته أدركه الليل وهو في واد مقفر موحش.. أعياه التعب.. رفض الجمل أن يتحرك افترش الرجل الأرض وبقي الجمل الذي كانت تغطي فمه فدامة واقفاٍ يقظاٍ..
رفع الرجل يديه إلى السماء وقبل أن يأخذه النوم كرر القول ثلاث مرات:
»اللهم أرقد فوق هذا الفرش تحفظنا يا رب العرش«.
صحا من النوم باكراٍ كان كل شيء على ما يرام عدا الفدامة لم تكن على فم الجمل.. بحث عنها لم يجدها واصل السير في اتجاه السوق.
في السوق رأى رجلاٍ يعرض فدامة للبيع إنها نفس فدامة جمله.
– اسمع أنت يا رجل سأشتري منك هذه الفدامة بالسعر الذي تطلبه حدثني بصدق كيف حصلت عليها¿
– مررت ليلة أمس بواد وأنا في طريقي إلى السوق رأيت وسط الوادي لأول مرة مبنى صغيراٍ على شكل قبة ليس له باب عدا كوة يظهر منها رأس جمل أدخلت يدي بحذر وخلعت هذه الفدامة من على فمه.
شكره على الحكاية وأنقده ثمن الفدامة.
ما ان عاد الرجل التقي إلى قريته حتى حكى لأهلها هذه القصة الغريبة صدقه الجميع عدا شاب كذبه وسخر منه ومن حكايته نفش الشاب ريشه وركبه الغرور قبل أن يركب جمله وسار في اتجاه السوق أدركه الليل في نفس الوادي.. افترش الأرض ساخراٍ قال: »اللهم أرقد فوق هذا الفرش ما يجي الصبح وعاد باقي إلا الحفى والفرث«.
هاجمته الوحوش الكاسرة ليلاٍ ولم يبق له ولجمله من أثر سوى الحفى والفرث.
انتشر خبر الحادثة سريعاٍ في القرية وصارت عبرة للجميع.
ماتت جدتي وغادرت القرية ووحوشها البرية لتستلقفني المدينة لترميني من شارع إلى زقاق من فرحة إلى انكسار والوحوش هنا في المدينة إن كانت لا تقتل لكنها تدمي تخلف في القلب جروحاٍ غائرة وتشق على الخدود مجرى لدمع لا ينضب.
ماتت جدتي.. مات معلمي الأول..
عبدالرحمن عبدالخالق