هل يمكن أن يكون المثقف أو المفكر في ختام العمر خطاباٍ آخر غيرالذي ألفه أو عْرفِ به في مراحل سابقة من عمره¿¿
أكثر من ذلك هل يمكن أن يصل خطاب ختام العمر إلى مستوى أن يكون نقيضاٍ لخطاب مقتبل العمر أو منتصفه¿!..
خاصة أننا نعرف نماذج كثيرة لهؤلاء المثقفين الذين عرفوا بنقلاتهم الحادة أو بقفزاتهم من ضفة إلى ضفة جريا وراء مصلحة أو اتقاءٍ لخطر.
لكن للموضوع جانباٍ آخر يتصل بمراحل النضج التي يجتازها المثقف وتطور اهتماماته وتراكم خبراته وخلاصات عمله ان التاريخ المعرفي يفرق في دراسته لسير العديد من المفكرين بين مراحل حياتهم الفكرية ومستوى خصوبتها وهكذا نقرأ أحياناٍ عن »هيجل الشاب« تفريقاٍ له عن »هيجل الشيخ« والحال نفسه بالنسبة لغرامشي الذي تبدو أعماله في »دفاتر السجن« أنضج وأعمق من أعمال غرامشي الشاب وينطبق هذا على جورج لوكاش الناقد والمفكر المجري الشهير الذي يبدو في أعماله المتأخرة متراجعا عن بعض مقولاته في سني الشباب أو الكهولة أو في أحسن الأحوال مدققا لها مطورا.
خطرت لي هذه الفكرة وأنا أطالع آخر أعمال الباحث العراقي هادي العلوي التي صدرت في طبعة تحمل تاريخ عام »٧٩٩١م« أي قبل وفاة الكاتب بأقل من سنة وهو بعنوان »مدارات صوفية« فأنت هنا بصدد لغة أخرى غير لغة الباحث الصارمة القاطعة التي ألفناها عند العلوي في أعماله السابقة وإنما بصدد عمل فلسفي – فكري مصوغ بلغة فلسفية خارجة للتو طازجة من أعمال ابن عربي والنفري والحلاج إن هادي العلوي في هذا الكتاب هو نفسه ذاك الناقم المتمرد المحتج ولكنه في ختام العمر يبدو أشبه بالشيخ الجليل إذ يصوغ ما يشبه وصية الوداع.
تحضرني هنا أيضاٍ عبارة قرأتها لعالم النفس فرج أحمد فرج الذي أنفق عقوداٍ في الدراسات النفسية وخبر مدارس وتجارب كثيرة قالها في مقابلة أجريت معه منذ عدة سنوات ومفادها أنه بعد رحلة العناء الطويلة التي قطعها يشعر بأنه أصبح يميل »إلى السماحة ورحابة الصدر إزاء الآراء والاجتهادات الأخرى« وهذا في ما أرى إشارة أخرى إلى أن العالم في مراحل نضجه يكتسب ما يمكن أن نسميه وقار الفكر والتجربة التي تجعله متسامحا وواسع الأفق وأكثر تحررا من الحماس الذي وإن كان مطلوباٍ كرديف للمثابرة والجد إلا أنه منبوذ حين يكون رديفا للتشنج والاعتداد الأجوف.
الباحث جورج طرابيشي في عمله الأخير »ثقافة الديمقراطية« يقارب هذا الموضوع هو الآخر من زاوية خاصة حين ينسب إلى نفسه وإلى الجيل الذي ينتسب إليه تهمة ممارسة ما يدعوه »أسطورة الخلاص الثورية« وهو في »ختام العمر« مصر على التحرر من الأسطورة التي »على حمولتها من الجمال والشاعرية »هي« لغة طفلية ومثالية« .
وأختم بحملة للمفكر إدوارد سعيد وهو كما نعلم عدو لدود للدوغما على أنواعها لكنه يقول »على المثقف إذا أراد أن يكون كذلك أن تكون له ثوابت«..