د.عبدالوهاب شمسان ❊
حرص المجتمع الدولي على تأمين الحياة البشرية على المستويين الفردي والجماعي منذ ان وعى الأثار المحزنة والكئيبة والدمار الذي خلفته الحروب والنزاعات بين الدول وداخل الدول وقد تمثل ذلك في اعلى مظاهره في حظر التهديد بالقوة أو استخدامها في العلاقات الدولية وأتجه المجتمع الدولي في إطاره النظامي إلى حث الجهود من أجل منع ومكافحة الجرائم الدولية. وفي هذا الإتجاه نرى أن ميثاق الأمم المتحدة تتويجاٍ لجهود المجتمع الدولي قد حرم استخدام القوة أو التهديد بإستخدامها في ميدان العلاقات الدولية وقد ورد هذا التحريم في عدة مواد من الميثاق ولاسيما في الفقرة الأولى من المادة الأولى.
وهذا يبين لنا أن استخدام القوة لم يعد مشروعاٍ في ظل القانون الدولي المعاصر وأصبحت قاعدة التحريم لهذا الاستخدام من غير الحالات التي يجيز القانون الدولي استخدامها فهي قاعدة أمرة لا يجوز خرقها أو الخروج عليها أو الاتفاق على ما يخالفها.
وبسبب الحروب المتعاقبة في العالم وما سبقها وما أصاب البشرية من جرائها داخلية ودولية من أهوال ومآسي ومن ممارسات بالغة القسوة والبشاعة لم ولا تقتضيها الضرورة العسكرية ولا تفرضها الرغبة في هزيمة العدو بل تدفع إليها الرغبة في التشفي وإثارة الفزع والرعب ونشر الدمار المادي والمعنوي اتجه المفكرون وفقهاء القانون الدولي والساسة والهيئات الدولية والوطنية والعديد من الدول إلى المطالبة بالعمل على الحد من أثار الحرب وعدم تجاوزها للضرورة العسكرية مادام هناك ضرورة لقيامها أو لا محالة من نشوبها وتهذيبها بحيث تتفق مع الهدف من الحروب ومع المبادئ الإنسانية وبذلت في هذه الاتجاه العديد من الجهود توجت بإرساء الكثير من القواعد العرفية والاتفاقية لحماية ضحايا النزاعات المسلحة والأموال الضرورية لهم. وتنطوي هذه القواعد على نقل الأفكار والقيم الأخلاقية وعلى الأخص الإنسانية إلى مجال القانون الدولي العام .. وقد أطلق على القواعد التي تحمي حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة اصطلاح القانون الدولي الإنساني الذي وضعت لبناته الأولى إتفاقية جنيف الأولى الموقعة في سنة 1864م والتي شكلت مولده حيث وبناء على دعوة من المجلس الاتحادي السويسري التقى في جنيف 26 مندوباٍ رسمياٍ يمثلون ست عشرة دولة اجتمعوا في قاعة المجلس البلدي لمناقشة موضوع (تحييد الخدمات الطيبة العسكرية في الميدان) واختتمت أعمال المندوبين في 22 أغسطس 1864م باعتماد اتفاقية جنيف الاولى بعنوان (اتفاقية لتحسين حال الجرحى العسكريين) التي وقعها ممثلو إثنتي عشرة دولة .. وهكذا تحقق إنشاء أول مؤسسة دولية لإغاثة الجرحى الذي كان الفضل الكبير في إنشائها لهنري دونان وما شاهده في المعركة الدامية في سولفرينو عام 1859م من أن ألاف الجنود الجرحى يموتون كنتيجة حتمية للإهمال وعدم تقديم الرعاية لهم.. وقد أعيدت صياغة هذه الاتفاقية في سنة 1906م ثم في سنة 1929م بعد الحرب العالمية الأولى.
ونتيجة للماسي والأحزان التي خلفتها الحرب العالمية الثانية أصبح الناس أكثر إدراكاٍ لذلك الخطر الذي يهدد البشرية بالفناء وكما إرتفعت الأصوات معلنة عدم كفاية قواعد قانون الحرب القائمة وطالبوا بضرورة مراجعتها واستكمال أوجه القصور فيها ومع ذلك أستمر التشبث بالإحجام عن تطوير قواعد الحرب .. وهنا أثبتت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنها أكثر إدراكاٍ ووعياٍ لهذه المشكلة وبذلت جهداٍ كبيراٍ حتى تم لها تنقيح قانون الحرب ودعت إلى عقد مؤتمر دبلوماسي أخر في جنيف انتهى في 12 أغسطس 1949م إلى إقرار أربع اتفاقيات .
- تتعلق الاتفاقية الأولى بتحسين حال الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة في الميدان.
- والثانية تتعلق بتحسين حال الجرحى والمرضى والغرقى من أفراد القوات المسلحة في البحار.
- وتتعلق الثالثة بمعاملة أسرى الحرب.
- وتتعلق الرابعة بحماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب.
ويصادف يوم الثاني عشر من أغسطس هذا العام 2009م الذكرى الستين لاتفاقيات جنيف الأربع الخاصة بحماية ضحايا الحرب لعام 1949م التي جاءت تعبيراٍ عن الرغبة في كفالة أكبر قدر ممكن من النزاعات المسلحة. وقد لازم ظهور نظرية النزاع المسلح اتجاها استهدف في حقيقة الأمر إدراج بعض القواعد القانونية المتعلقة بسير العمليات الحربية في الوثائق المتعلقة بحماية ضحايا الحرب وصولاٍ إلى إبراز صيغتها الإنسانية الأمر الذي أدى إلى استخدام إصطلاح القانون الدولي الإنساني من قبل اللجنة الدولية للصليب الأحمر رغبة منها في إبراز الطابع الإنساني الخالص لقانون النزاعات المسلحة.
ذلك القانون الذي يهدف إلى حماية الكائن البشري والأموال اللازمة بالضرورة وأكدت اللجنة أن هذا الاصطلاح الجديد لا يقتصر في دلالته على اتفاقيات جنيف الخاصة بحماية ضحايا الحرب فحسب وإنما يتجاوزها ليشمل تلك القواعد العرفية أو الإتفاقية التي تضع القيود على تسيير العمليات الحربية أو استخدام الأسلحة وغيرها من القواعد الدولية ذات المضمون الإنساني وتحددت أيضاٍ لاعتبارات إنسانية آخذة بعين الاعتبار أن القانون الدولي الإنساني بالرغم من حداثته إلا أن قواعده قديمة ولذا من البديهي أن تلحق التسمية بالمسمى وليس العكس والقانون الدولي الإنساني “فرع من فروع القانون الدولي العام تهدف قواعده العرفية والمكتوبة إلى حماية الأشخاص المتضررين في حالة نزاع مسلح بما نجم عن ذلك النزاع من ألام كما تهدف إلى حماية الأموال التي ليست لها علاقة مباشرة بالعمليات العسكرية “.
وعلى الرغم من أن الفقه الدولي كان ينظر بقناعة واضحة إلى ذلك البناء القانوني الحديث الذي أقامته اتفاقيات جنيف فإن ذلك لم يكن ليحول دون إدراك الفقه بصفة عامة لقصور قانون الحرب في جملته عن مسايرة الواقع الدولي الجديد ومواكبة متطلباته ومن ثم الدعوة إلى إعادة النظر فيه ومحاولة جعله أكثر توافقاٍ مع حقائق الحياة الدولية المعاصرة.
وفي خضم ذلك هناك حقيقة لا جدال فيها أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر أصبحت اليوم منظمة عالمية يشار لها بالبنان كمؤسسة للقانون الدولي الإنساني ولما تبذله وما تقدمه من جهود في خدمة الإنسان والعمل الخيري والإنساني وانتشاره وترسيخه في العالم مؤكدة بما لا يدع مجالاٍ للشك بأن المؤسسين الأوائل لها – ويأتي في مقدمتهم ( هنري دونان ) – لم تكن تنقصهم الثقة أو التوقع بما ستؤول إليه الأمور في المستقبل القريب والبعيد – وما نحن عليه اليوم ليس إلا تأكيداٍ لذلك فها هي العديد من اللجان والجمعيات الوطنية للهلال الأحمر وللقانون الدولي الإنساني قد أنشئت في بلدان عديدة من العالم إن لم تكن كلها – والجمهورية اليمنية إحداها التي لها السبق مع بعض الدول العربية في الاهتمام بهذا الجانب الإنساني حرصها على حياة الإنسان وحماية حقوقه وحرياته أثناء النزاعات المسلحة كما هو في مرحلة السلم. وإذا ما عملنا على تقييم نشاط اللجنة الدولية فإننا سنجد أنه وتحديداٍ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث لم يمر عام دون أن تنشب حرب ما أو تستأنف أو تتسع الأعمال العدائية في هذه المنطقة أو تلك من العالم أنها كانت تضطلع بمهام كبيرة وجسيمة مواجهة كافة التحديات والعقبات التي أعترضت طريقها وسعت لعرقلة قيامها بواجبها الإنساني.
واليوم تأتي الذكرى السنوية الستون لاتفاقيات جنيف واليوم العالمي للجنة الدولية للصليب الأحمر وقد تعزز كيانها وتثبتت إمكاناتها حيث أصبحت تعمل بصورة مستمرة وفي أنشطة مختلفة تحقيقاٍ لحماية الإنسان ومساعدته وباتخاذ التدابير الضرورية واللازمة للحيلولة دون الأضرار بالفرد ودرء أعمال العنف عنه والحد من حرمانه من حقوقه الأساسية والحفاظ على سلامته البدنية وكرامته الشخصية.وإن كانت هناك حقيقة لا بد من الإفصاح عنها فهي أن تاريخ اللجنة الدولية للصليب الأحمر مرتبط ارتباطاٍ وثيقاٍ بتاريخ الشعوب ولذا نجد أن تاريخها تحدده الأحداث التي تتعرض لها هذه الشعوب كالحروب والمنازعات ونزوح السكان وتشتت العائلات وأضرار البيئة وانعدام المياه ومتطلبات الحياة الكريمة والملائمة للإنسان وإذا ما قمنا بالتحليل والتعمق في دراسة هذه الأمور وموقف اللجنة الدولية منها فالنتيجة لن تكون إلا ساطعة وعاكسة للدور الكبير الذي تلعبه في هذا المضمار حيث تسعى اللجنة الدولية للصليب الأحمر دوماٍ في العمل على ضرورة حماية حياة الإنسان وسلامته البدنية والمعنوية عندما تشتعل شرارة النزاعات المسلحة والحروب وأثارها المأساوية إنها تحرص على حماية الإنسان ورعايته وأكثر من ذلك تحرص وبشدة على الاعتراف له بصفته التي يتميز بها عن سائر المخلوقات كإنسان. غير أن المهمة تزداد صعوبة وتعقيداٍ في تلك الحالات التي تتدهور فيها القيم الإنسانية ويندفع فيها العنف والتعصب الأعمى والتهور الغريزي فهنا تصبح أعمال الحماية والمساعدة وتطبيق قواعد ومبادئ وأهداف القانون الدولي الإنساني صعبة المنال لاصطدامها بعقبات ضخمة تتزايد بصورة مستمرة بتزايد ضراوة الحروب والنزاعات المسلحة بشكل لا يمكن فيه التغلب عليها أحياناٍ دون تكاتف الجهود الطيبة من قبل الخيرين كافة.
وتعمل اللجنة الدوليه للصليب الأحمر في كل مكان حيث ما يسمح لها بالعمل فهي لا تتجاوز غير المسموح لها ولا تفرض نفسها على الأخرين ومع ذلك فإن أغلب الدول في العالم إن لم نقل كلها تعترف بأن مصلحتها بالطبع القبول على إقليمها بنشاط منظمة إنسانية غير منحازة تساعد دوماٍ في حل المشكلات الإنسانية الصعبة التي تفرضها الحروب وتترك آثارها وتساهم وبفعالية في تقريب هوة الخلافات بين الأطراف المتنازعة بنية نقية وصادقة وبدوافع مخلصة.
ولذا يجد أي متتبع منصف انه ومنذ لحظة نشوء اللجنه الدوليه تعتبر الدول ومنها الجمهورية اليمنية أن وجودها ضرورياٍ لما تقدمه وتقوم به من مهام إنسانيه وما تضطلع به من خدمات طوعيه وإذا ما اختزلنا العلاقة القائمة بينها وبين الدول فإننا نستطيع القول وببساطه أن تاريخها تحدده الأحداث التي تتعرض لها الشعوب كالحروب والمنازعات والاضطرابات والمجاعات والكوارث الطبيعية ونزوح السكان وتشتت العائلات.. وغيرها من الأثار التي تخلفها سلوكيات الإنسان في مجرى حياته المليئة بالتغيرات والتبدلات.
أمام كل ذلك ولمواجهة هذه التحديات التي تتطلب التعبئة المستمرة تسعى اللجنه الدوليه للصليب الاحمر التي شهدت وعايشت الكثير من الحالات المآساوية إلى الحيلولة دون تكرارها وتعمل دوماٍ على التخفيف من آثارها وما ترتب عنها. ومن هنا نجد أننا إذا ما تتبعنا آثار تطور اللجنه الدولية فسنجد أنها دائماٍ ما تكون بالقرب من الأحداث والتغيرات العالمية السياسية والعسكرية أو الإجتماعية منها التي تنسج التاريخ وتشكل ملامحه إلى حد ما فالفترات والمراحل التي تحدد وترسم تاريخ هذا العالم على مدى سنوات طويلة وتحديداٍ الستين الأخيرة التي تمثل بذاتها معالم تميز جهود اللجنة الدولية للصليب الاحمر في سعيها الدؤوب لتأمين تغليب مبادئ وقواعد وأسس القانون الدولي الإنساني على اتجاهات القوة والعنف المتصاعد وتكنولوجيا العصر المدمرة.
ولتحقيق ذلك على ارض الواقع وضعت اللجنه الدوليه للصليب الأحمر نصب عينيها مسألة هامة تمثلت في نشر قواعد القانون الدولي الإنساني وترسيخ مبادئه حتى يصبح جزءاٍ من المنظومة القانونية للدول والشعوب مؤكدة مرة أخرى أن حماية مبادئ الإنسانية في وقت الحرب تعتمد إلى حد كبير جداٍ على مدى تعمقها في ضمير الإنسان منذ وقت السلم.
وتعبيراٍ عملياٍ لذلك أكدت قيادة الدولة والجهات المعنية في اليمن دوماٍ على الأهمية التي تكتسبها عملية التأهيل والتأصيل لقواعد ومبادئ القانون الدولي الإنساني في الأوساط الجامعية والعسكرية لما لذالك من أهمية في تحقيق الهدف المرجو في التعميق المستمر لجوهر ومضامين القانون الدولي وملحقاته وترسيخها لدى الشباب والمقاتلين والعمل بها في واقع السلوك والممارسة بغية التقليل والحد من حدوث الأخطار الجسيمة وارتكاب الجرائم أثناء الحروب والنزاعات المسلحة.
أما رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في صنعاء / جان نيكولا مارتي / فقد أشاد في كلمته التي ألقاها في افتتاح الندوة العلمية ” العلاقة بين القضاء الدولي والقضاء الوطني في ضوء أحكام القانون الدولي الإنساني ” التي انعقدت على هامش الاجتماع الثاني والثلاثين للمكتب الدائم لاتحاد الحقوقيين العرب المنعقد في صنعاء للفترة 6 – 8 يوليو 2009م بالتعاون المتطور بين الجمهورية اليمنية وبعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر مؤكداٍ أن الجمهورية اليمنية تعتبر الدولة المتميزة والوحيدة على مستوى الوطن العربي التي عملت على إقرار القانون الدولي كمادة دراسية في إطار مناهج التعليم العسكري وكذا في مقررات الجامعات اليمنية.
إن هذا النموذج من التفاعل مع مبادئ وأهداف القانون الدولي الإنساني يبين بما لا يدع مجالاٍ للشك أن الذين يسعون دوماٍ وبمصداقية إلى تخفيف الألأم التي تسببها الحروب لا بد إن عاجلاٍ أو أجلاٍ أن يتساءلوا عما إذا كانوا يرون طريقاٍ لا نهاية له وعما إذا كان ينبغي لهم إلى جانب تضميد الجراح والتخفيف من أثار هذه الحروب توجيه اهتمامهم إلى منع الحروب برمتها باعتبار ذلك هو الهدف الذي يسعى إليه الجميع أولئك الذين وضعوا مسألة السلام وحب الإنسان والحد من شـروره في أولويات أهدافهم وفي طليعتهم اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
إنها مهمة صعبة لجميع أولئك الذين يرفضون الإكتفاء بالعبارات المهدئة وحسب والذين يرون أن النضال ضد الحرب لا يمكن أن يكون فعالاٍ ما لم يقم على أساس دراسة علمية لظاهرة الحرب التي تؤرق الجميع دون استثناء ودون تمييز بين الدول صغيرها أو كبيرها قويها أو ضعيفها غنيها أو فقيرها.
أمام هذا الوضع الذي لا يحتمل عملت اللجنة الدولية للصليب الأحمر – كما سبق وأن نفذت ذلك في مجال الحماية والمساعدات – على وضع برنامج واسع يهدف إلى توسيع مجال العمل في مكافحة الحرب دون التنازل في سبيل ذلك عن حياديتها دون التجرد من الوسائل التي تمكنها من تخفيف الألأم والمأسي التي تسببها الحرب.
وقد شمل هذا البرنامج إلى جانب تعميم ونشر مفاهيم ومبادئ القانون الدولي الإنساني في أوساط منتسبي المؤسسة العسكرية العمل وبوثيرة عالية على نشر وتعميق مفاهيم القانون الدولي الإنساني ومبادئه بتدريسه في الجامعات والأكاديميات ومنها الجامعات العربية حيث انتدبت اللجنة الدولية لهذه المهمة عددا من المستشارين لهم باع طويل وتجربة غنية في هذا المجال يأتي في صدارتهم الدكتور / عامر الزمالي والأستاذ / شريف عتلم.. وغيرهم الذين ومن خلال الجهود المضنية التي بذلوها ويبذلونها بدأت عملية نشر وتدريس القانون الدولي الإنساني في الجامعات العربية والجامعات اليمنية ضمنها تؤتي ثمارها سواء من خلال الدورات السنوية كأيام الدراسات العربية حول القانون الدولي الإنساني التي عقدت في أكثر من مدينة عربية منذ عام 2003م وحتى الأن والتي التقى فيها المتخصصون والخبراء القانونيون وناقشوا جملة من القواعد القانونية والمفاهيم والأسس التي يرتكز عليها القانون الدولي الإنساني.. مؤكدين على أن تحقيق الهدف المرجو من تعميم ونشر القانون الدولي الإنساني لا يمكن أن يتم إلا من خلال الاهتمام والدعم المستمرين للجامعات العربية لكي تعمل على إيجاد مساحة زمنية محددة لتدريس القانون الدولي الإنساني ضمن برامجها وخططها الأكاديمية ..
الأمر الذي كان له أثره الكبير في قيام مجموعة من الجامعات اليمنية بإستيعاب هذا البرنامج الذي لا يعد نهاية المطاف فالمسألة غاية في الأهمية ولذا من الضرورة بمكان استمراريتها والتزود بكل جديد والتواصل المستمر بين الكليات والجهات المعنية في كل بلد عربي للتنسيق والتشاور في الأسس والوسائل اللازمة لتطوير عملية تدريس مبادئ وأهداف وقواعد القانون الدولي الإنساني واستيعابها.
وفي هذا المنوال تتم سنوياٍ في الجمهورية اليمنية لقاءات للتشاور وتبادل الأراء حول المعوقات التي تجابه أي كلية وقد كان أخرها لقاء تم في صنعاء بتاريخ 4 – 5 يناير 2009م ضم ممثلي اللجنة الدولية للصليب الأحمر وممثلين عن كليات الحقوق والشريعة والقانون في الجامعات اليمنية الحكومية هدفه التشاور والنقاش المتسفيض حول الأسس اللازمة والضرورية للتنسيق في ما بينها للاستيعاب الأمثل للقانون الدولي الإنساني وتعميق مفاهيمه ونشر مبادئه.
إن تنوع نشاط اللجنة الدولية للصليب الأحمر يؤكد مرة أخرى أنها لا تنظر إلى أن الأمن والسلام وانتشار مبادئه معناه انعدام الحرب أو حالة الحرب وإنما باعتبار أن مهمتها الإنسانية وما تقوم به هو عملية تعاون نشطة مع جميع الدول والشعوب تعاون يقوم على الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية والمساواة واحترام حقوق الإنسان في الحرب وأثناء النزاعات المسلحة كما هو في وقت السلم.
إن المفاهيم الإنسانية تفقد الكثير من مصداقيتها وإنسانيتها إذا كانت مخصصة لفائدة بعض البشر على حساب الأخرين ولذلك فإن مفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطية وحق تقرير المصير التي أنتصرت في السنوات الأخيرة في أجزاء واسعة من كرتنا الأرضية أو كما يحلو لبعض العلماء تسميتها ” قريتنا الكونية “ تحتاج إلى الاعتراف بضرورة تطبيقها الشمولي بلا تمييز ويحتاج تطبيقها إلى الحماية من الانتقائية غير البريئة ومن الازد واجية المقيته في المعايير.
ومن هذا المنطلق نرى أنه لا يمكن إنكار حقيقة تاريخية تؤكد وجود قواعد إنسانية تختلف طبعاٍ عن القواعد المعمول بها في عصرنا الراهن لكنها لا تقل أهمية في جوهرها عن أحدث ما توصلت إليه الأعراف والقوانين المعاصرة. وإذا كانت معاملة الأعداء في القديم تتسم بالقسوة والشدة فلا يعني ذلك أن الرحمة والشفقة وليدتا العصور الحديثة ومفهومان جديدان في تاريخ البشرية بل أن ثمة قواعد ومفاهيم قديمة ذات آبعاد إنسانية راقية على بساطتها وضيقها . وبما أن جميع الحضارات ومختلف الشعوب والأمم قد عرفت الحرب ومارستها فإنها تعاملت مع أقدم ظاهرة وأخطرها في حياة المجتمعات البشرية – هي من صنع الإنسان – وفق حقائق الظروف وتطور العلاقات العدائية وسواء نشبت الحرب بين قبائل أو دول أو امبراطوريات أو أديان وعقائد فإنها تفرض على المحاربين وأطراف النزاع سلوكاٍ يختلف عما تكون عليه الحال في زمن السلم.
من كل ذلك نستشف أن القانون الدولي واكب مفهوم الحرب بين الإباحة والحظر وحتى عهد قريب كانت الحرب وسيلة مشروعة لفض المنازعات بين الدول. وبما أن القانون الدولي الإنساني هو ذلك القسم الضخم من القانون الدولي العام وفرع من فروعه الذي يستوحي الشعور الإنساني ويركز على حماية الفرد الإنساني في حالة الحرب أو النزاع المسلح فإنه قد لقي اهتماماٍ كبيراٍ من قبل كافة الدول وفي مقدمتها بلادنا الجمهورية اليمنية التي تولى وباستمرار قضية حماية الإنسان في النزاعات المسلحة انعكس ذلك في التشريعات الجزائية العسكرية شأنها في ذلك شأن باقي دول العالم منطلقة من أن مقتضيات النظام العسكري تستلزم وجود قانون جزائي خاص بالقوات المسلحة . وقد اتضح ذلك من خلال الجهود الكبيرة والدؤوبة والمضنية للمشروع اليمني الذي سعى جاهداٍ إلى التوفيق بين التزام الرجل العسكري وحقوقه المكفولة في الدستور والقانون باعتباره إنساناٍ أولاٍ وأخيراٍ في حالتي السلم والحرب. ومن خلال نظرة سريعة في القانون رقم (67) لعام 1991م الخاص بالخدمة في القوات المسلحة والأمن والقرار الجمهوري بالقانون رقم ( 7 ) لسنه 1996م بشأن الجرائم والعقوبات العسكري وقانون الإجراءات الجزائية وقانون السلطة القضائية وبدرجة أساسية وعلى وجه الخصوص القانون رقم (21) لسنة 1998م بشأن الجرائم والعقوبات العسكرية الذي أفرد في الباب الثالث فصلاٍ كاملاٍ (الفصل الثالث ) لجرائم الحرب. أشارت المواد: 20 – 23 منه على التوالي إلى معاقبة كل شخص ترك واجباٍ في منطقة الأعمال العسكرية وأقدم على سلب أسير أو ميت أو مريض أو جريح مدة لا تزيد على خمس سنوات أو بجزاء يتناسب مع نتائج الجريمة مع إلزامه برد ما سلب أو قيمته ومعاقبة كل شخص أرتكب أثناء الحرب أي فعل من الأفعال التي تلحق ضرراٍ بالأشخاص والممتلكات المحمية بمقتضى الاتفاقيات الدولية التي تكون الجمهورية اليمنية طرفاٍ فيها (منها إتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949م وبروتوكولاها الملحقات بها) بالحبس مدة لا تزيد على عشر سنوات أو بجزاء يتناسب مع نتائج الجريمة وتعتبر على وجه الخصوص من جرائم الحرب المعاقب عليها بمقتضى هذا القانون الأفعال التالية :-
1- قتل الأسرى أو المدنيين ولا يعفيه هذا الجزاء من الدعوى الجزائية إن كان القتيل محرم الدم.
2- تعذيب الأسرى أو إساءة معاملتهم أو تعمد إحداث ألام شديدة بهم أو إخضاعهم لأي تجارب علمية.
3- تعمد الحاق الأضرار الخطيرة بالسلامة البدنية والعقلية والصحية للأسرى من العسكريين والمدنيين أو إرغامهم على الخدمة في القوات المسلحة.
4- احتجاز الأشخاص المدنيين بصورة غير مشروعة أو أخذهم كرهائن أو التمترس بهم أثناء العمليات الحربية.
5- الاستخدام الغادر للشارة المميزة للهلال الأحمر اليمني أو أي شارات أخرى دولية للحماية وفقاٍ للاتفاقيات الدولية.
6- الهجوم على السكان المدنيين والأشخاص العاجزين عن القتال ونهب وسلب الممتلكات مع الحكم بإعادتها أو الضمان مع التلف.
7- الهجوم على المنشأت المدنية العامة والخاصة.
8- الهجوم على المناطق منزوعة السلاح مع عدم وجود مبرر لذلك.
ومن أجل ضمان التطبيق الفعلي والخلاق لما ورد أنفاٍ أكدت المادة ( 22 ) على أنه ” لا يسقط الحق في سماع الدعوى في الجرائم المنصوص عليها في هذا الفصل بالتقادم” . كما بينت المادة ( 23 الضرورة التي يجب أن تلقي المسئولية على المخالفين للقانون وتحديداٍ الذين أصدروا الأوامر لمن هم أدنى منهم رتبة حيث تشير إلى أنه ” في حالة ارتكاب أية جريمة من الجرائم الواردة في الفصل الثالث ) يكون القائد والأدنى منه رتبة مسئولاٍ عن الجريمة ولا يعفى أي منهم من العقوبة المنصوص عليها إلا إذا أرتكبت الأفعال دون اختيارهم أو علمهم أو تعذر عليهم دفعها “.
وإلى جانب ذلك هناك جملة من القوانين تضمنت نصوصا قانونية عكست اهتمام التشريعات اليمنية بحقوق الإنسان وكذا حماية الإنسان في النزاعات المسلحة وفقاٍ لمبادئ وقواعد القانون الدولي الإنساني التي يأتي في مقدمتها الدستور بإعتباره أعلى وأسمى وثيقة قانونية في الدولة وينص فيه على المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام القانوني في الجمهورية اليمنية.
ولما كانت حالة السلم غير دائمة والحروب والمنازعات المسلحة بين الدول عرضة للأذى عند نشوب الحروب فقد سارعت الجمهورية اليمنية إلى التصديق على اتفاقيات جنيف الأربع في سنة 1970م. كما صادقت على البروتوكولين الملحقين بهذه الاتفاقيات في سنة 1990م. وأعلنت بذلك التزامها بجميع أحكام ومبادئ القانون الدولي الإنساني التي تضمنتها هذه الاتفاقيات والبروتوكولات الملحقات بها أيمانا منها بأهمية هذه الأحكام انسجامها مع ما يدعو إليه ديننا الحنيف وقواعد شريعتنا الإسلامية الغراء لتحقيق الهدف الأساسي للقانون الدولي الإنساني في النزاعات المسلحة والمتمثل في صيانة الحد الأدنى للنظام الدولي العام والتقليل من تدمير القيم الإنسانية والمادية إلى أدنى حد ممكن.
إلى جانب ذلك هناك جملة من القوانين والقرارات اتخذتها الجمهورية اليمنية تضمنت نصوصاٍ قانونية عكست اهتمام المشرع اليمني بحقوق الإنسان في السلم وكذا أثناء النزاعات المسلحة وفقاٍ لمبادئ وقواعد القانون الدولي الإنساني منها مثلاٍ قانون إستخدام شارة الهلال الأحمر والصليب الأحمر رقم (43) لعام 1999م الذي يشير إلى أن استخدام شارة الحماية يعد عاملاٍ أساسياٍ في بسط الحماية المقررة بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949م والتي أصطلح على تسميتها بشارة (الحماية أو الاتفاقية).
إن هذا النهج هو بالأساس نهج وسلوك وممارسة للقيادة السياسية في الجمهورية اليمنية ممثلة بفخامة الأخ الرئيس/ علي عبدالله صالح الذي يعمل دوماٍ وبحرص وتتبع كيفية إعمال المبادئ والحقوق الإنسانية وفقاٍ للقيم التي نادت بها وتحملها شريعتنا الإسلامية الغراء وينادي بها القانون الدولي الإنساني وكانعكاس فعلي وعملي لذلك اصدر رئيس الجمهورية القرار رقم (408) لعام 1999م بتشكيل اللجنة الوطنية لشؤون القانون الدولي الإنساني متوجاٍ بذلك اهتمام الجمهورية اليمنية بقواعد القانون الدولي الإنساني ومؤكداٍ على التزامها الفعلي والحقيقي وتأكيدها العملي على مبدأ احترام حقوق الإنسان في السلم والحرب.
حيث قضت المادة الاولى من القانون بعد الديباجة بان تنشأ بموجب أحكام هذا القرار لجنة وطنية دائمة … فيما قضت المادة الثانية بأن تتولى اللجنة الوطنية ممارسة المهام والاختصاصات التالية:
} مراجعة التشريعات النافذة ذات العلاقة وتحديد مدى توافقها مع نصوص القانون الدولي الإنساني وتقديم المقترحات الهادفة إلى تطوير هذه التشريعات بما يكفل مواكبتها للمستجدات والتطورات التي يشهدها القانون الدولي الإنساني.
} تحديد الآليات والتدابير والإجراءات الكفيلة بتنفيذ مضامين القانون الدولي الإنساني ووضع أحكامه موضع التطبيق العملي.
} إقرار الخطط والبرامج الكفيلة بنشر القانون الدولي الإنساني وتعميمه والعمل على تنمية الوعي القانوني بآحكامه بين صفوف مختلف شرائح المجتمع ومتابعة تنفيذها.
} الإشراف على تنفيذ أحكام القانون رقم (43) لسنة 1999م بشأن تنظيم شارتي الهلال والصليب الأحمر ومنع إساءة استخدامها.
} دراسة وإقرار عقد الندوات وسائر الفعاليات المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني على المستوى الوطني وكذا المشاركات في المؤتمرات والفعاليات الإقليمية والدولية ذات العلاقة.
} المشاركة في دراسة ومراجعة مشروع الاتفاقيات الدولية والبروتوكولات في مجال القانون الدولي الإنساني وتقديم المقترحات والتوصيات المناسبة بشأنها.
} العمل على تنمية التعاون وتبادل الخبرات مع المنظمات الإقليمية والدولية العاملة في مجال القانون الدولي الإنساني ومساعدة الجهات الحكومية ذات العلاقة في إعداد الدراسات والتقارير التي تتطلبها تلك المنظمات.
} التنسيق بين الجهد الحكومي والجهد الدولي في مجال القانون الدولي الإنساني.
وهكذا نجد أن اتفاقيات جنيف لعام 1949م قد أحدثت تطوراٍ ملموساٍ في مضمار تحديد جرائم الحرب ومعاقبتها ويبدو ذلك بشكل خاص في النقاط التالية:
1- إحتاطت الاتفاقيات لتغطية مبدأ (لا جريمة إلا بنص) حيث جرمت المادة (147) بوضوح جملة من المخالفات الخطيرة. وأما بالنسبة لبقية المخالفات فاكتفت بطلب اتخاذ الإجراءات المناسبة لوقفها بدون أن تتدخل في تحديد هذه الإجراءات المناسبة.2- تركت أمر تحديد عقوبات هذه المخالفات الخطيرة للدول نفسها.3- تركت الباب مفتوحاٍ أمام الدول كي تعتبر في تشريعاتها الوطنية بعض المخالفات الأخرى غير الواردة في نص المادة (147) من الاتفاقية الرابعة مخالفات خطيرة أيضاٍ وتعاقب بنفس العقوبة.4- أقرت اتفاقيات جنيف مبدأ اجتماع المسؤوليتين : مسؤولية من أقترف المخالفة ومسؤولية الدولة التي يتبع لها أو يعمل تحت سلطتها مع الفارق الأساسي بين المسؤوليتين وهو أن مسؤولية الدولة هي مسؤولية مالية في الأساس تنحصر بدفع مبلغ من المال كتعويض إلى الدولة التي يتبع لها المتضرر من المخالفة في حين أن مسؤولية الأفراد هي مسؤولية جنائية ومالية معاٍ.
كل ذلك يؤكد لنا مصداقية الدول ومنها الجمهورية اليمنية في العمل ودون كلل على بناء أساس متين لمستقبل خال من الحروب حيث توج ذلك بتوصل المجتمع الدولي إلى اتفاق بشأن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998م كتحول تاريخي تشهده البشرية وكأعظم إنجاز حققته الإنسانية بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان – ودخول المحكمة حيز النفاذ في إبريل 2002م والذي كان للجنة الدولية للصليب الأحمر الدور الريادي في إخراج المحكمة إلى حيز الوجود انطلاقاٍ من المهام المناطة بها وفقاٍ للتفويض الذي أعطي لها من المجتمع الدولي للحفاظ على الإنسان وحمايته في النزاعات المسلحة والحد من أثارها إلى جانب قيامها بمساندة ومساعدة الدول في العمل على نشر مفاهيم ومبادئ وقواعد القانون الدولي الإنساني والبحث بصورة مستمرة ودؤوبه عن القواعد القانونية اللازمة للحد من انتشار الحروب ومعاقبة مفكريها ومرتكبيها.
ولعل نشوء المحكمة الجنائية الدولية خير دليل على توجهها الإنساني وتأكيد على مصداقيتها خاصة وأنه بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وجدت الأسس والقواعد القانونية اللازمة لتحديد الجزاء اللازم والعقوبات الضرورية للذين يخرقون أو يعملون على خرق قانون جنيف أو غيره وشكل في نفس الوقت الخلفية القانونية لملاحقة مجرمي الحرب والحيلولة دون إفلاتهم من العقاب ورغم ما يعتري نشاط هذه المحكمة من ملابسات ومحاولات لعرقلتها وحرفها عن قيامها بمهامها وواجباتها الإنسانية إلا أنها تسير قدماٍ سعياٍ لحماية الإنسان وصون كرامته وحفاظاٍ على حياته وأمنه واستقراره..
❊ نائب عميد كلية الحقوق – جامعة عدن