كثير من الناس يستلهمون من الصعوبات التي يواجهونها قوة وهمة وإصراراٍ وهو أمر غير عادي حقاٍ فهم يحملون قضيتهم ولا يستسلمون بل يدافعون عنها.
ولكن أن يستلهم آخرون ذلك وهم في قلب المعاناة – الإعاقة – فذلك أمر غير عادي واستثناء لا مثيل له..
أما محسن فعهدي به معرفة عامة منذ 8 سنوات ولكن منذ عام توطدت هذه المعرفة فقد كنا على اتصال يومي في فترات وكنت مثل حال عامة الناس اعتقد أنه يتابع الأمر معي بحكم وضعي الوظيفي.. ولكن أكبرت فيه تلك النقاشات التفصيلية وتلك الأفكار المعمقة التي غرسها هو ومجموعة من زملائه وغالبيتهم لديهم من الإعاقات المؤثرة فينا نحن غير المعاقين ولكن تعايشهم مع إعاقتهم جعلني أتعايش وأتفهم وأكبرهم وهم يملأون حياتهم بابتسامة وجهد مضاعف ورضا بما قسمه الله لهم.. من أجل ذلك قضيت العام الماضي معهم عملاٍ رائعاٍ تشاركنا جميعاٍ إياه إنه عمل مسرحي بعنوان »أبتاه ما ذنبي أنا« ألفه الشاب عادل الجرباني وهو معاق ومن فكرة وإخراج المخرج علي الخياط أما دينامو العمل إعداداٍ ومتابعة إدارة ومالية وتنسيقاٍ كانت لمحسن الشرعبي الذي يعاني حالة تقزم وتوقف »إعاقة للنمو« حركية منذ الولادة انعكست على نطقه وصار حبيس الكرسي مما عمق إحساسه بأن يدافع عن احتياجات ومتطلبات المعاقين من قوانين وتشريعات ووسائل علاج وتمكين.. كان محسن الوحيد القلق على النص والذي دخل معي في نقاش حول الجوانب الإنسانية والسياسية والفنية للعمل المسرحي بحكم أنني كنت المفوضة لإجازة النص ومراجعته مما جعلني أقوم بقراءات عدة متكررة وقد حملت مسؤولية مضاعفة إزاء قلقه ونقاشه وحتى لا تكون تعديلاتي مقص رقيب بل كنت أطلب منه والآخرين أن يعينوني على تعديلات مقبولة ترضينا جميعاٍ ولا بتر لسياق النص وكان ما يميزه أنه قلق متابع متصل وهي صفة قلما نجدها فينا إلا أصحاب الحق وهم قلة ومنهم محسن لأنه يحمل معاناته ومعاناة أعداد لا تحصى لضحايا الإعاقة وقد قال لي إنني أرى في هذا العمل المسرحي قضيتي وقضايا مئات الآلاف وقد كان محقاٍ حيث صيغت المسرحية صياغة أدبية سلسة لم تتخذ المباشرة أسلوباٍ ولكنها عرجت على تلك الأسباب الشريرة من حروب وتوابعها من الالغام ومخرجات الإرهاب واصطدامات السيارات والاخطاء الطبية وزواج الأقارب لما يحمله من عوامل وراثية وجينية للاعاقات.. ثم كان لمحسن برغم إعاقته الحركية الشديدة دور حساس في تنفيذ العمل المسرحي وهو المنسق والإداري للعمل.
وكنت في قرارة نفسي أكن إعجاباٍ وتقديراٍ لما يقوم به فها هو أعد ميزانية تفصيلية وها هو يناقش مبررات مكوناتها ثم ينفذ ويختار ويشتري الملابس والمعدات ويفاوض على تفاصيلها بل كان المضحك والمبكي أن أي تأخير يأتي إلى الفريق شاكياٍ محسن وأنا أفكر كيف أسأله دون قسوة وهو أمر يرفضه المعاقون.. وها هو محسن الذي يرد علي بكل تفاصيل ومسؤولية لأعرف منه أنه أنجز كذا وكذا وإذا بي أمام شخص كفؤ وقادر وكأن لسان حاله يقول لي إن منطق الشفقة والرحمة منطق تقليدي لا ينبغي التعامل من خلاله معنا وينبغي أن نسأل عما نكلف به مثل غير المعاقين.
لذا أتمنى من مجتمعنا أن يندمج مع المعاقين وألا ينظر لهم نظرة شفقة بل من منظور ما يمتلكون من قدرات ومهارات.
لقد تحقق اعتراف متزايد بحقوق المعاقين وبذلت جهود وطنية ودولية لتمكين المعاقين من حقوقهم ودمجهم في المجتمع في مختلف مجالات الحياة ويبقى علينا تفهم مشاعرهم وألا نبدي مشاعر الشفقة والتقليل من قدراتهم ولعل من المهم الاشارة إلى أن كثيراٍ من القوانين سنت وكذا إجراءات شتى إدارية وهندسية لتمكينهم من الحياة والمشاركة خاصة أن الجمعية العامة للأمم المتحدة هي الأخرى دفعت باتجاه إصدار اتفاقيات دولية لحماية المعاقين وصون كرامتهم.
اليوم لا غرابة أن ترى طلبة معاقين يدرسون في الجامعة وأطفالاٍ خصصت لهم مدارس أو وفرت لهم وسائل تعينهم.. رحم الله محسن الذي ترك لنا إرادة قوية ودفاعاٍ مستميتاٍ عن قضايا الإعاقة وقدم نموذجاٍ..
كم نحتاج لإرادة ودفاع ينقلها محسن يتعلمها غير المعاقين لينهضوا بأنفسهم..