أزال الجاوي: اليمن والاستعمار “المقنع” الجديد
مصطلح “السلام بالقوة” الذي كثر تكراره مؤخراً من قبل القيادات الأمريكية والإسرائيلية هو مصطلح خاص بمنطقة الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، لم نسمع نفس المصطلح من أي مسؤول أمريكي عند الحديث عن الحرب الأوكرانية أو غيرها.
في الواقع، هذا ليس مجرد مصطلح منمق لمعنى الاستسلام، بل يحمل في طياته معنى استعمار جديد “مقنع”، لكنه واضح، أو كما سماه نتنياهو: تدشين “شرق أوسط جديد”.
وهذا ما يفسر تمزيق أمريكا وإسرائيل للاتفاقيات التي أبرمت مع دول المنطقة. على سبيل المثال: اتفاق أوسلو مع السلطة الفلسطينية، الذي كان أشبه بالاستسلام، ومع ذلك تم تمزيقه لصالح استعمار كامل كان مقنعاً إلى ما قبل السابع من أكتوبر. الأمر ذاته يتكرر بأشكال مختلفة في الاتفاق النووي مع إيران، حيث تنازلت إيران عن حقوق مشروعة لها بموجب ذلك الاتفاق، إلا أن أمريكا مزقته لأن الهدف لم يكن الموضوع النووي بقدر ما كان إخضاع إيران للاستسلام والقبول بالاستعمار الجديد “المقنع” للمنطقة.
والأمر ذاته فيما يخص الاتفاق الأخير مع حماس، والذي كان المقصود به الاستسلام الكامل، وليس مجرد اتفاق على تسليم الرهائن مقابل وقف الحرب كما توقع الكثيرون. والحبل على الجرار في كل الاتفاقيات التي تم توقيعها مع العرب وفقاً لمنطق “السلام بالقوة” الذي يتحدثون عنه.
وإسرائيل لا تخفي ذلك، بل تتحدث عنه علانية وبوضوح تام في رغبتها بإقامة “إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات” وهيمنة على ما وراء ذلك، و”طز” باتفاقاتها مع الأردن ومصر متى رأت أن الوقت قد حان.
فلسفة “السلام بالقوة”
تستند إلى ثلاث خطوات أساسية:
1.اتفاق أولي (هدنة) يوقف المقاومة أولًا، كخطوة مبدئية.
2.تفكيك وتجفيف عناصر القوة، سواء كانت عسكرية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية.
3.الانتقال إلى التفاوض حول جوهر الصراع، ولكن من موضع ضعف بعد استنزاف الخصم، أي تحويل العملية إلى فرض أوامر للتنفيذ فقط.
بهذه الطريقة، يصبح أي اتفاق سلام مجرد وسيلة لإحكام السيطرة، وليس لتحقيق تسوية حقيقية.
اليمن: الهدنة كمقدمة للاستعمار المقنع
عندما حدثت الهدنة في اليمن، كنا من أشد المعارضين لها، لأنها تقوم على نفس الفلسفة: توقف عن المقاومة أولاً، ثم نناقش السيادة واستقلال البلاد، والأمور الأخرى المتعلقة بالحقوق التي لا يمكن التنازل عنها. بدلاً من أن يكون الاتفاق أولاً يقضي بخروج القوات الأجنبية واستعادة السيادة على كامل الأراضي والجزر والمياه الإقليمية، أو على الأقل جدول زمني واضح لذلك، ثم الحديث عن هدنة مزمنة لمناقشة “تنفيذ” بقية الاستحقاقات ونقاط الخلاف نحو سلام دائم.
هذا الإخفاق أدى إلى العدوان الأمريكي اليوم. وما موضوع مساندة غزة بالنسبة لهم إلا كاشف عن أن اليمن لم يخضع بعد من خلال تلك الهدنة، وبالتالي فإن فكرة الاستعمار المقنع لا تزال غير ناضجة في كل الجزيرة العربية، والتي تأخذ شكل انفتاح واستثمارات كأداة ناعمة عند دول الجوار، وتجويع وحروب وصراعات داخلية مستمرة في اليمن.
الإدارة السياسية في صنعاء: بين التفرد والقصور
من هنا أيضاً كان انتقادنا، وما زال، لسلطة صنعاء في إدارتها للملف السياسي والاقتصادي والأمور المصيرية للدولة، والذي انفرد فيه أنصار الله دون حق أو شرعية، إضافة إلى ضعف واضح وقلة معرفة في إدارة الشأن السياسي الوطني بشكل عام، وإلى أطماع السلطة والقفز إلى ما يسمى “بالتمكين والتسليم” قبل تحرير البلاد وإخراجها من الأزمة والعودة إلى الشعب باعتباره صاحب السلطة ومصدرها بطرق شرعية.
اليوم يواجه اليمن المرحلة الثانية من حرب استعمارية حقيقية، وليس مجرد عدوان كما يقال في الإعلام، وهو ما يتطلب لمواجهته وحدة وطنية حقيقية، ليس فقط لإدارة المعركة العسكرية – فهذا لن يتردد الشعب فيه تلقائيًا وتحت أي قيادة – ولكن لرسم مستقبل البلاد والمشاركة في الخروج من الأزمات وتحقيق الاستقلال التام والكامل لكل الوطن، وليس لأجزاء منه على حساب أجزاء أخرى، ودون مساومة بأجزاء من أرض الوطن أو الانتقاص من السيادة مقابل سلطة جزئية أو شكلية.
حتى وإن لم تكن تلك المحصلة باتفاق هدنة جديدة محتملة مع الأمريكيين، فبحكم الواقع الذي يفرزه الانفراد بالقرارات المصيرية والتسلط دون تفعيل مبادئ الشورى والبيعة، أو ما يقابلها بالمصطلحات الحديثة من مشاركة وشرعية تراضٍ دون إكراه، تضمن مشاركة الجميع في حل المشكلات ورسم المستقبل، فإن الوضع سيظل هشًّا ومهددًا.
الخلاصة: تجنب تكرار أخطاء الماضي
نعود ونكرر ما قلناه سابقاً: تكرار التجربة السابقة في حرب السنوات العشر في مواجهة معركة اليوم لن يختلف كثيراً، فهي مجرد امتداد وإن كانت بعناوين مختلفة. ولأن التاريخ يتكرر في بلادنا أسرع مما نتوقع، نستطيع أن نؤكد أنه ستكون هناك هزيمة عسكرية للمعتدي، ليس لقوة سلطة صنعاء ولكن لعوامل تتعلق بالإنسان اليمني والأرض والموروث الديني والحضاري، في مقابل إخفاق سياسي واقتصادي بسبب الإدارة الخاطئة للصراع، والتي ستؤدي حتماً إلى تمزيق البلاد ووحدتها وسيادتها، وربما هذه المرة بشكل أكبر.
ما لم يغيّر أنصار الله تعاملهم مع الأطراف الوطنية الأخرى، وما لم نسمِّ الأمور بمسمياتها الحقيقية، وهي أننا في حرب تحرير وطني وقومي في مواجهة استعمار جديد عنوانه “الشرق الأوسط الجديد”.
Comments are closed.