«ليس بوسعي أن أمحو من عينيّ كلّ ما رأيت، ولا من أذنيّ الصراخ والعويل الذي سمعت، ولا من أنفي الروائح المنبعثة من الجراح المتقيّحة». بهذه الجملة، التي تظهر على شاشة سوداء، مُرفقة باسم الطبيب الفلسطيني البريطاني المناضل غسّان أبو ستّة، يُفتتح الوثائقي الذي يحمل توقيع المخرجتين كارول منصور ومنى خالدي. بعد حصده جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجانَي «القاهرة السينمائي الدولي» و«كرامة الأردني لأفلام حقوق الإنسان»، وصل فيلم «حالة عشق» إلى سينما «متروبوليس» في بيروت، ليستمر عرضه حتّى الخامس من شباط (فبراير).
يستعرض الوثائقي سيرة غسّان أبو ستّة، الذي تحوّل إلى مناضل شهير بعدما ترك بلد إقامته في لندن وإنجازاته في جراحة التجميل، ليرمّم جراح ضحايا الإبادة في غزّة. ورغم أنّ الفيلم يبدو ظاهرياً كعمل يتناول حياة هذا الطبيب، الذي أصبح بطلاً في عيون الفلسطينيين ومناصريهم، فإنه في جوهره فيلم عن غزّة والإبادة التي شنّها الاحتلال على أهاليها، من زاوية رؤية أبو ستّة وانطلاقاً من تجربته فيها. هو شريط يوثّق «حالة عشق»، وقع فيها أبو ستّة، وبقي وفيّاً لها.
الفيلم الذي باشرت المخرجتان، منصور وخالدي بتسجيله، فور مغادرة أبو ستة لغزّة، بعد خمسة وأربعين يوماً من بدء الإبادة، ينطلق إيقاعه بحديث أبو ستّة عن عملية تجميل للشفتين «رفع الشفاه من دون ندبات» التي اشتهر بها في لندن، ثمّ تتقاطع إنجازات جرّاح التجميل مع مشاهد للمناضل الذي عايش كوابيس الإبادة. في أحد المشاهد، يروي تجربته في غزّة قائلاً: «أجريت عمليات بتر لستّة أطفال، أحدهم كان يبلغ ثلاث سنوات، وكان الفرد الوحيد الذي نجا من بين عائلته. لم يبقَ له أحد…»، ثمّ يتوقف عن الكلام، ويسمح لدموعه بإكمال الحكاية.
تسافر منصور وخالدي مع أبو ستّة إلى الأردن، حيث يلتقي بعائلته بعد عودته من غزّة. نتعرف إلى والدته، وعمه، وصديق طفولته، الذين يروون قصصاً عن عشق أبو ستّة لفلسطين منذ صغره، وعن عائلة والد أبو ستّة، التي أورثته حالة العشق هذه. ثمّ تنتقل عدسة الكاميرا، إلى الكويت، ليمر أبو ستّة من أمام منزل عائلته السابق، ويتوقف أمام عيادة والده الراحل، الذي كان طبيب أطفال. «أنا وعمري 14 سنة، ضليت أسبوع عم حضر حالي بدي أحكي مع أبوي وأقول له شغلة مهمة، كان في معسكر تدريبي بـ«عدن»، بدي أروح عليه، آخر شي أعدت وحكيت معو خبرتو، قلي «إنت يا بابا حتصير طبيب وسيشار إليك بالبنان». هكذا يستذكر أبو ستة من أمام عيادة والده، فورة المراهقة، تستوقفه دموعه، لكنه يكسر اللحظة المؤثرة بحس فكاهته الذي رافق الفيلم بعفوية «مش كان أحسن لو رحت ععدن؟».
تلحق الكاميرا أبو ستّة إلى لندن، حيث تعيش زوجته الغزّاوية وأطفاله الثلاثة. هناك، نشهد تفاصيل حياته اليوميّة كزوج وأب. نتعرّف إلى عائلته الصغيرة الفخورة، ومعاناة زوجته بسبب حصار الاحتلال لمنزل والدها وعمها في غزّة. بين الأردن والكويت ولندن، تتقاطع جميع المقابلات مع شهادات أبو ستّة حول العنف والجرائم التي شهدها خلال الإبادة. تتلاقى هذه الشهادات مع الصور الموجعة، التي توثّق آلام الغزّاويين وإصاباتهم. «العنف مش لازم يكون أداة، لأ. هو للاستعراض، التمثيل، الإغراق بالقتل، الإغراق بالعنف، الذهاب إلى ما بعد الموت. مش تقتليه، لازم تقتليه وبعدين تمشي فوق جثمانو بالدبابة(…)» هكذا يصف أبو ستّة عنف الصهيوني، ثمّ يتابع ليصف إسرائيل بـ«قاتل متسلسل يهتم بالتفاصيل، ويستمتع بها».
يتحدث عن معاناة الغزّاويين. يحاول أن يصفها: «ما في حدا مصابو مصاب واحد». ثمّ يصف صراعه كطبيب في ظلّ الإبادة: «بتصير تعمل عمليات ليلّي حيموتوا اليوم مش يلي حيموتوا بكرا (..)». ويضيف: «وصلت للحضيض، وعم تحاول تمد إيدك بس لتشدّ أي حدا من يلي عم يغرقوا».
نتابع في الفيلم سعي أبو ستّة إلى محاسبة العدو الصهيوني، ونكتشف أيضاً أنّ تسميته بـ«البطل»، هي تسمية غير محببة بالنسبة إليه: «ربيت بزمن كان مليء بناس ملهمين، الخطر بكلمة بطل إنو بصير هو الشاذ مش العادي. العادي إنو هاد جزء من معركة مصيرية مربوطة بوجودنا كأفراد ومجتمعات».
غزّة التي دائماً ما وصفت بأنّها «صداع إسرائيل الدائم»، حوّلها الاحتلال الصهيوني على مدار سنة وثلاثة أشهر، إلى جحيم وكوابيس، في مشاهد لم نرَها حتّى في أكثر أفلام الرعب وحشية. أمّا أبو ستّة، فيظهر في «حالة عشق» كحلم أحد الشبّان بأن يعيش في عالم تسوده القيم والإنسانية، قبل أن يصطدم بواقع مرير، حيث أبو ستّة وأمثاله هم القلّة.
يرافق صوت أبو ستّة، مشاهد الدمار في غزّة، مردداً أبياتاً من قصيدة الشاعر الراحل مظفر النواب:
«حالة عشق لا تتكرر، تلك فلسطين
إن قدمت لهم ماءً، سألوك بحب إن ذقت مياه فلسطين
أو أكلوا، سمّوا بسم الله وحب فلسطين
أو قُتلوا تحت الأرض،
يعودون إلى حضن فلسطين
أو جاؤوا باب الجنة
يلقى الله بأيديهم قبضة طين منها
يتمنى أن يستبدل جنته يا عبد الله بهذا الطين».
فيلم «حالة عشق»: حتّى الخامس من شباط (فبراير) – سينما «متروبوليس» (مار مخايل، بيروت). للاستعلام: 81/069530
Comments are closed.