بسام شمس الدين*
عرفنا جوائز عديدة صغيرة جاءت على استحياء لدعم الرواية اليمنية، فظهرت جائزة السعيد الثقافية في التسعينيات، أو في مطلع الألفية الثانية، وخصصت في بعض الأعوام للرواية، وقد منحت لأعمال محلية ولدت لتموت سريعا لأشخاص معظمهم من تعز، ثم اندثرت جائزة السعيد أيضا، وكأن رأس المال المحلي لا يحبذ تحفيز الأعمال الإبداعية والفنية بقدر ما يود المشاركة في إنشاء المساجد والمؤسسات الدينية لتحسين صورته أمام المجتمع التقليدي المحافظ، فالجوائز أحيانا تكون طلقة الرحمة للأشخاص الذين لا يستحقونها، وهي الفخ المحكم للمؤسسات والأفراد الذين يديرونها أو يشرفون عليها، وبعض هذه الجوائز تحمل أسماء كتّاب تجاوزهم الإبداع الحاضر، وصار ترديد أسمائهم يوحي إلى خلل في الذهنية العامة في مجتمع مازال أفراده يقاتلون لتمجيد أشخاص أميين ماتوا قبل قرون طويلة، وعلى المستوى الحكومي نشأت جوائز ارتبطت بمؤسسة الرئاسة لتلميع اسم الحاكم، ما خلق كثيرا من الإحراج للمبدعين والكتّاب الذين لا يريدون أن يجدوا في سيرتهم الذاتية اسم الحاكم بديلا عن اسم الوطن، لأن الحاكم رجل عسكري سرعان ما يترك منصبه ثم يموت، لكن الوطن عنصر دائم، ومن جهة أخرى، فالمبدعون يحبون أن تكون أسماؤهم خالية من الشوائب، بعيدا عن الصراعات والتفاهات الحزبية، فالمجتمع الذي يركب موجة التقليد دون أن يمر بمرحلة متقدمة من النضج السياسي يقع في الصراعات الثقافية والسياسية، وقد رأينا الجوائز المؤسساتية الأهلية والحكومية كيف قضت على المبدعين، ولم يعد هناك ممن نالوا هذه الجوائز سوى أديب واحد ما زال حاضرا في الكتابة القصصية، لكن الآخرين ذهبوا وانقشعوا كالغمام، كما انقشعت معظم تلك الجوائز التي لم تؤسس بشكل سليم، حتى البلاد كلها أصبحت مهددة بالانقراض، وكما نرى، لكل شيء ثمن، فالسكوت على ما يجري يجعلنا أيضا موافقين ومشاركين بطريقة أو بأخرى بهذا التدمير الممنهج للإبداع الحقيقي، وفي الوقت عينه تلك الملاليم التي تدفع للمبدع لا يمكنها أن تنتشله من الفقر أو العوز، بل تزيد من عدد الأشخاص الذين يطلبون منك تسديد ما عليك من الديون السابقة، وكذلك تجلب إليك طالبو القروض، وبالكاد تخرج لتدلل عائلتك بالعشاء في مطعم أو نزهة صغيرة، ولا تشعر بعد أيام إلا وقد عدت إلى وضعك السابق مفلسا، ثم تتساءل إن كنت مبدعا حقيقياـ ماذا تعني لك هذه الجائزة الصغيرة؟ ماذا بعد؟ هل تعني المزيد من الابداع والتجديد والإنتاج المتميز؟ أم تعني القيمة المادية والرخاء المعيشي؟ ومن ثم تقع في ورطة إن كنت مهذبا وتشعر بالخجل، فالأدباء سوف ينتظرون منك أن تنتج أعمالا مميزة أخرى، لكنك ربما ستصمت وتبتلع لسانك وتقول لنفسك لقد وصلت إلى النهاية، وتظن أنك أصبحت كاتبا، وهذا أمر خارج عن إرادتك، لأنك في النهاية مبدع صغير تلقيت جائزة محلية صغيرة من ممول مشبوه، ثم ظننت أنك غدوت مميزا، وقررت أن تعلن اعتزالك عن الكتابة لتقتات على هذا الإنجاز اليتيم الذي دخل خلسة إلى سيرتك الذاتية دون أن تعلم.
- ظهرت في الفترة الأخيرة جوائز يمنية في مصر أنشأتها أحزاب دينية وتقليدية لتحافظ على ظهورها الثقافي كنوع من غسيل الأموال
بينما من اللائق أن تكتب أكثر، وأن يكون كل عمل لك مختلف عن الآخر، وهو أمر سيأخذ منك جهدا مضنيا إن كنت من الأدباء المكافحين الذين يحاولون خلق إبداعهم بقوة المثابرة، لكن الأديب الحقيقي وكذلك الفاشل ينتجان أعمالا كثيرة بسهولة.
فالمبدع الموهوب سيكتب بشغف واستمتاع كما أسلفت في مقالات سابقة، وينتج عملا جيدا في أقل قدر من الجهد والوقت، أما المبدع الفاشل فسوف يرص الكلمات دون نظام وكيفما اتفق، وبسهولة مفرطة، وفي موعد سريع، ثم يكتب على الغلاف دون اكتراث “شعر” أو “رواية” أو “مسرحية”.. لكن الوسط الأدبي رغم هشاشته لا يغفل عن الأشياء السيئة ولا يغفرها، وسيتجاهل أي عمل أدبي لا يستحق الاحتفاء. ولن يهتم بأمر الجائزة.
في الفترة الأخيرة ظهرت جوائز يمنية في مصر أنشأتها بعض الأحزاب الدينية والتقليدية لتحافظ على ظهورها الثقافي وكنوع من غسيل الأموال، كما نشأت متاجر ثقافية لشخصيات تعمل لصالح جهات استخباراتية ودينية تقوم بفرز المبدعين حسب انتماءاتهم الثقافية والعرقية والسياسية، وصار بوسعك أن تسمع وتشاهد الفائزين بهذه الجوائز عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولعلّي أبالغ حين أقول أن بوسعك أن تقرأ على قائمة الفائزين اسم مقرئ أو منشد لطائفة دينية أو صوفية أو اسم ابن مدلل ولئيم لعائلة محتضرة، والمحكّمون للجوائز طالما يكونون من أكثر الأشخاص لؤما وعنصرية وأقلهم ثقافة، حتى تستغرب كيف يتم اختيارهم بعناية فائقة، وهذه المحاصصة في توزيع الجوائز اكتسبت من عادة سابقة لتقسيم خيرات ومناصب البلد على زعماء القبائل والعائلات والقادة العسكريين، ما أوصل بلادنا إلى قائمة أكثر البلدان فشلا في العالم.
وقبل أيام حدثني روائي حصل على جوائز عربية ونشر في دور نشر كبيرة، قال إنه قدم نصا أدبيا إلى جائزتين يمنيتين بغرض تشجيعها ودعمها بحضوره المستحق في المشهد الإبداعي، لكن اسمه لم يظهر على قائمة الفائزين، فقلت له من حسن حظك يا صديقي أنك لم تفز، ومن سوء حظهم أنك لم تفز أيضا، فأنت مؤسسة كبيرة لم تستطع جائزتهم التافهة أن تستوعب فكرك وحضورك القوي، ولا يليق بمؤسسة مثلك أن تضم اسمك إلى مؤسسة ستزول بزوال ظروف إنشائها.
كان صديقي الكاتب المعروف يظن أن بلاده تنتظر حتى يعترف به العالم، ثم يظهر أولئك الذين جحدوا ابداعه، ويتسابقون على الحديث عنه، وأخذ الصور معه، وكل شخص يكلمك عن محبته والمواقف التي جمعته مع هذا المبدع، ينتظروك حتى تكبر بعيدا عنهم، وغصبا عنهم، ثم يحضرون لتلميع أنفسهم قربك والتلمس من نورك ووهجك.
أليس هذا من أبغض الأمور التي يمكن أن تحدث؟ فالناس لا يشاركون بتنميتك حين تحتاج إليهم، بل يظهرون في الوقت الذي يحتاجون إليك ولا تحتاجهم، ومثل هؤلاء يعيشون تحت أنقاظ البلدان الفاشلة التي هدمها النفاق والزيف، وفي خرائب المشهدين الثقافي والسياسي، وما على المبدع الحقيقي سوى أن يكتب وحسب، فالنصوص التي تكتبها يا عزيزي المبدع هي جوائز ضخمة، والمتعة التي تجدها من الكتابة أعذب من ممارسة الحب مع حوريات الأرض، كما أن استمتاع القارئ وغوصه في نصوصك هو تشريف كبير لك ولحروفك.
الجوائز المؤسساتية الأهلية والحكومية قضت على المبدعين ولم يعد هناك ممن نالوا هذه الجوائز سوى أديب واحد ما زال حاضرا في الكتابة القصصية
وإياك أن تحقد على حملة المسابح في الوسط الأدبي لأنهم يعانون من الهشاشة والخواء، ولا تستطيع أرصدتهم المالية أن تكسبهم السعادة أو الرونق الذي تمنحه لك نصوصك المضيئة. إنهم مجرد رابطات عنق مزركشة أو حقائب كتف مهترئة، وأنت روح مبدعة محلقة في قلب كل زمان ومكان.
اكتب يا صديقي حتى يغتال جسدك متطرف جاهل أو مبدع فاشل، ولا يسعك إلا أن تشفق على الفاسدين والفاشلين الذين يتسببون بالأذى للناس والأرض، ولأرواحهم وأنفسهم ومستقبل أبنائهم.
أما الإبداع فإنه قد يزهر في أكثر البيئات عدائية، وهذا لا يعني أن المعاناة تخلق الابداع كما يتردد. بل العكس صحيح، وهو أن الابداع يطرد المعاناة، ويصفي الروح، ويخلق سعادة عارمة.
وأخيرا أنصح الجوائز الصغيرة أن تخصص الجائزة لفئة الناشئين أو لفئة عمرية معينة مثل رواية الفتيان أو غيرها.
المهم يجب أن تكون الأمور واضحة بعيدا عن استغفال الذوق العام للقراء الذين لن يسرهم أن يروا أعمالا سيئة بين أيديهم مكتوب عليها جائزة الإبداع اليمني.
- قاص وروائي