سعيد خطيبي*
أتجول في متجر كتب عربية، على الإنترنت، وأصادف الكم الهائل من كتب التنمية البشرية، التي يحتل بعضها المراتب الأولى في قائمة المبيعات. وهذا ليس غريباً، بحكم أن هذا النوع من الكتب صار مثل فيروس، احتل العالم بأسره، وفي كل مكان يحتل الصدارة في اهتمامات القراء. تلك الكتب بأغلفتها المزركشة مثل الكتب المدرسية، وعناوينها الجذابة، التي يسهل أن يقع في فخها القارئ المتعطش إلى الوصفات السحرية. عناوين على شاكلة: «مفتاح السعادة» «خمس خطوات كي تعيش سعيداً» «تحدى نفسك وعش سعيداً» من بوسعه أن ينجو من هذه العناوين؟ فالمشترك بينها أنها تجعل السعادة سلعة ملقاة على الأرصفة، ويظن القارئ أن مطالعة الكتاب تكفيه فتصيبه عدواها، أو هكذا يخيل للقارئ. إنها تبيع السعادة لمن يرغب فيها، لكن القراء لم يخبرونا هل عثروا عليها أم كانت مجرد وهم! مع أن تعريف السعادة ليس ثابتاً.
برامج الطبخ في التلفزيون كذلك تبشر الناس بالسعادة، فعلى رأيها أن السعادة تقيم في معدة الإنسان، وكذلك برامج التوك شو، تقسم بأغلظ الأيمان أن السعادة في الترفيه، وقد تكون السعادة في مجاورة شخص نحبه.
لكن مؤلفي كتب التنمية البشرية أدركوا أن الإنسان المعاصر يعيش في عزلة، أفرزتها التكنولوجيا الجديدة، وأن الحب ليس متاحاً مثلما كان في السابق، ويعلمون أن قارئهم يحيا حياة على الهامش، منعزل عن حياة الآخرين، قليل التواصل مع غيره، لذلك فإنهم يستثمرون في عزلته، يختصرون له الطريق ويتيحون له كتباً توسع من حقه في الحلم، لكنها لا تفيد على أرض الواقع بشيء. هذه الكتب من التنمية البشرية تشبه المهدئات، قد ينسى القارئ معاناته في لحظة من اللحظات، لكن بمجرد زوال المهدئ، يعود الألم إلى موضعه. وعندما نطالع الصفحات الأولى من هذه الكتب، نتخيل أنها تخيط السعادة على مقاس كل شخص، تعده بالجنة في حال صدّق كلامها، لكن شيئاً فشيئاً، مع توالي الصفحات ندرك أن ما جاء في الكتاب لا يعدو تجربة شخصية للمؤلف، ويريد إسقاط تجربته على الآخرين. في الغالب إن ما يعرض من كتب تنمية بشرية، في السوق العربية، إنما هي كتب مترجمة، من أمريكا أو أوروبا. وما ينطبق على شخص من ذلك المجتمع لا ينطبق بالضرورة على شخص من بيئة عربية. القارئ يفهم الفروقات بين المجتمعين، لكنه يريد أن يوهم نفسه عكس ذلك. وهذه قوة كتب التنمية البشرية، في قدرتها على إيهام القارئ عكس ما يفكر فيه. تجعله يشعر بأنه كائن قابل للتجدد، ومن شأنه أن يحيا حياة مثل نظير له في نيويورك أو لندن، وهي حقيقة لا يعثر عليها سوى بين دفتي الكتاب، وحالما يفرغ من كتاب التنمية البشرية، سوف يواجه واقعاً مخالفاً.
هذه الكتب التي تستفيد من علم النفس ومن تجارب ذاتية، لا تقول إنها كتب سيكولوجيا، بل تقدم نفسها على أنها كتب «سيكولوجيا السعادة». مع أن الكآبة كذلك من شأنها أن تجعل حياة الفرد مثمرة. إن مؤلفيها يقدمون أنفسهم مثل من يحمل المصباح السحري، يجيبون على الأسئلة كلها، ولا يوجد سؤال يتعذر عليهم الرد عليه، يلقون بالصنارة في شكل كتاب، يبتلعها القارئ ويؤمن بها، ثم يتحول هذا المؤلف إلى مدرب، ينشّط ورشات في التدرب على السعادة، تكلفة الانضمام إليها لا تقل عن ألف دولار. نعم، ألف دولار كي تتعلم كيف تصير سعيداً. هكذا هو سوق الكتب الأعلى مبيعاً، في العالم العربي، سوق يبشر الناس بالسعادة، والناس يصدقون من يملأ قلوبهم بالأوهام.
حديقة الأنانية
من غير اللائق أن نتهم المواطن العربي بمعاداة الكتاب، وأنه لا يقرأ. صحيح أن قراءة الشعر أو الرواية أو النقد ليست في أحسن حالاتها، لكن المواطن العربي يطالع كتباً في المجمل. وأرقام مبيعات كتب التنمية البشرية تؤكد هذا الكلام. فالإقبال عليها في تضاعف، سواء كانت كتباً محلية أو أجنبية. وهنا نقطة أخرى يجب الإشارة إليها، ان حركة الترجمة لم تخفت، فهذا النوع من الكتب يترجم باستمرار، بل هناك دور نشر تتخصص حصراً في كتب التنمية البشرية، ونجدها تقريبا في كل الدول العربية. ما يعني أنها سوق مربحة، تعود بفوائد معتبرة على أصحابها. فهي ليست ترجمات مقرصنة، بل تتضمن معلومات عن حقوق الملكية وحقوق الترجمة. لكن الملاحظ في هذا النوع من الكتب أنها تعزز من عزلة الإنسان، تزيده مسافة في الابتعاد عن الآخرين. إنها كتب تركز كل جهدها على التجربة الشخصية للفرد. تعده بالسعادة إذا تتبع خطواتها بمفرده، وليس جماعة. هذه العزلة من شأنها أن تضاعف كذلك من أنانية القارئ ونرجسيته. لأنها تعامله ككائن متفرد، وأن تميزه لا يكتمل إلا إذا حافظ على مسافة إزاء الآخرين. في حقل كتب التنمية البشرية، تتسع أنانية الإنسان. ينفرد في صحراء تعصمه عن الآخرين. هذه الكتب تسقي شعوره بالنرجسية، وتغذيه بشعور أنه أفضل من غيره، ترفع من هرمونات أنانيته، ويظن أن خلاصه لا يتم إلا بالاتكال على النفس، بل إن هذه الكتب تعزله عن محيطه الاجتماعي والسياسي. لا يهمه ماذا يحصل في الشارع، بقدر ما تهمه حياته الشخصية. يصير غير مبالٍ بما يدور من تحولات، بل كل وعيه وجهده منصب في حالته الشخصية. يظن أن هذه الكتب تتيح له ملاذاً من العالم، وهي كذلك، لأنها توهمه بأن الشر يأتي من الآخرين. وأن القطيعة مع الناس هي الخلاص مما يعانيه من أزمات نفسية. هذه الكتب التي تدّعي حلولا ووصفات من أجل حياة أفضل، سوف تخرج قارئها من سياقه الاجتماعي، فلا ينظر سوى إلى ذاته في المرآة. واللافت أننا دخلنا عصراً جديداً في عالم التنمية البشرية، لم تعد تلك الكتب تتوجه إلى البالغين فحسب، بل منها من يتوجه إلى الأطفال أو اليافعين. من أجل الكسب المادي السريع، تريد كتب التنمية البشرية صناعة إنسان جديد. إنسان يؤمن بالوهم وبأن العزلة هي الخيار الأمثل في عالمه المعاصر.
- كاتب جزائري