فراس موسى*
مطرٌ ثقيلٌ حامضٌ.. مطرُ الرصاص يجيئنا من كلّ صوبٍ.. نفتحُ الشبّاك.. تغلقهُ المدافع بالصدى.. لا كهرباءَ ولا مياه.. وليس من صوتٍ سوى لَسْع المدافع.. ليلُنا ليلٌ طويلٌ.. ليلُنا ليلٌ تبنّتْهُ القذائفُ.. والمنايا.. الطائراتُ ترشّها كالرزّ فوق رؤوسنا..
٭ ٭ ٭
جاري يقول لجاريَ الثاني: ستنفدُ ربّما كلُّ الرؤوس هنا.. لكنْ ذلك القنّاصُ ابنُ الكلبِ لم يتعبْ..
٭ ٭ ٭
رصاصٌ طائشٌ.. مطرُ الرصاص يسحُّ من كلّ الجهات.. الشرقُ غربٌ.. والشمالُ هو الجنوبُ.. هنا ستنعجنُ الجهاتُ ببعضها عمّا قليلٍ.. صلبةٌ هذي الصبيحةُ كالحديد.. هنا العصافيرُ الصغيرةُ لا تغنّي مثلما كانتْ تغنّي.. طائراتُ الموت مثل النحل ذاهبة وآيبة تشجُّ طفولةَ الأشياء.. تبقرُ بطنَها… والراجماتُ تصبُّ – تسخو- إذ تصبُّ سعيرَها
٭ ٭ ٭
ردمٌ على ردمٍ.. هنا لا تستريحُ الطائراتُ ولا تريحُ.. ونحن نرقصُ تحت جاز القصفِ أيّاما، وأيّاما.. هنا مدن تزاحمها الشظايا.. كلُّ شيءٍ حولهُ حبلُ التفجّع والشَجَا.. إنّ المشافي غيّرتْ أثوابَها.. دورُ العبادة ترتدي زيَّ المشافي.. والبناياتُ.. الدكاكينُ.. المدارسُ.. والمطاعمُ.. والبيوتُ.. وكلُّ بسطات الفواكه والخضار.. جميعُها صارتْ مقابرَ..
٭ ٭ ٭
مشهديّاتُ السّواد كثيفةٌ ومقيمةٌ..
طفلٌ يفتّشُ بين أنقاض المنازلِ عن بقايا أهله..
جثثٌ على طرقٍ تمدُّ ثيابَها..
طرقٌ على جثثٍ تمدُّ ترابَها..
٭ ٭ ٭
أفقٌ دخانيٌّ يخرِّمهُ دويُّ الانفجاراتِ التي لا تنتهي.. تتخلّعُ الأبوابُ.. ترتجُّ البنايةُ.. يُطحنُ الباطونُ.. ينصدعُ الجدارُ.. ونحن قتلى.. لم نزلْ قتلى.. لكنْ سوف نصحو.. سوف نولدُ من جديدٍ كي نموتَ… نموتُ حسب مشيئة العبريّ.. حيث يتابعُ القصفَ الذي لا ينتهي كمسلسلٍ ويتابعُ الموتَ الذي لا يرتوي ويديرُ أغنية ليسترخي قليلا.. نحنُ تسليةٌ لهُ.. هذا زمانٌ صار فيه القتلُ تسلية.. فيا موتُ انتظرنا.. نحنُ نعرفُ / أنتَ تعرفُ أنّنا في لعبةٍ أبديّةٍ.. لا أنتَ تشبعُ أو تملُّ.. ولا الدماءُ تنشُّ..
٭ ٭ ٭
يا موتُ انتظرْ.. يا أيّها التمراحةُ الحيويُّ.. يا موتُ انتظرْ.. لسنا بطمّاعينَ.. مطلبنا بسيطٌ.. هدنةٌ عجلى ستكفي.. ساعةٌ أو ساعتان ستكفيان لجمع أشلاءِ الضّحايا.. ساعةٌ أو ساعتان ستكفيان لكي نرتّبَ مسرحَ القتلِ المُعادِ.. لكي نعدّلَ في السيناريو.. ربّما ملَّ المشاهِدُ مشهدَ القصف الرتيب.. وساعةٌ، أو ساعتان ستكفيان ليلتقي الموتى بمَنْ ماتوا حديثا.. كي يقولَ الآخرونَ لآخرينَ: هناك في الأفق المدمّى.. كيف أحوالُ الحياة؟ وساعةٌ أو ساعتان ستكفيان لكي نفتّش عن مياهٍ في شرايين الصهاريج التي نسيتْ طوابيرُ القنابل أن تفجّرَ بعضَها.. كي نغسلَ الموتى من الدمِ والغبارِ ومن سِباب الهاجمين.. وساعةٌ أو ساعتان.. وبعد ذلك سوف تنفجرُ السّماءُ سيبدأُ الزلزالُ.. زلزالُ القذائفِ.. سوف يندلعُ الجنونُ.. ونحنُ مصطافونَ بين قذيفتين.. صباحُنا كمسائنا.. ومساؤنا كصباحنا.. طوقٌ من الألوان.. أحمرُ، ثمّ أصفرُ، ثمّ أزرقُ.. ثمّ لا أدري.. يضيعُ اللونُ.. أبتلعُ الدخانَ.. أنا أميلُ.. أميلُ.. تهوي فوقَ رأسي قطعةٌ من حائطٍ يهوي.. فأهوي ثمّ يوقظني الدويُّ.. ستارةٌ شجّتْ.. وأبوابٌ مخلَّعةٌ.. وأجسادٌ محرّقةٌ.. هواءٌ أسحمٌ.. تيهٌ يوزّع ظلَّه فوق الشوارع.. أسقفٌ سقطتْ.. أثاثٌ فوضويٌّ.. أرجلٌ بُترتْ.. أنينٌ مستمرٌّ.. أضلعٌ كُسِرتْ.. أصابعُ لمْ تمارسْ متعةَ اللمس الحميم.. جهنّمٌ.. أفقٌ سديميٌّ.. سماءٌ.. لا سماءَ.. هنا القيامةُ أُعلنتْ..
٭ ٭ ٭
جيشٌ يحاولُ محوَ شعبٍ ها هنا..
شعبٌ يحاولُ أنْ يحبّ حياته..
٭ ٭ ٭
صوتٌ يجيءُ من البعيد محشرِجا: هل أنتَ حيٌّ؟ لم أمتْ.. شكرا، وشكرا.. ألفَ شكرٍ.. إنّ حظّي جيّدٌ.. يتأجَّلُ الموتُ المحتَّم ساعة أو ساعتين.. وهكذا تتكرّرُ الأحداثُ.. كلُّ دقيقةٍ موتٌ جديدٌ.. هكذا تمضي الدقائقُ كالسلاحف.. يُفلس الصبرُ الجميلُ.. رصيدنا صبرٌ.. وألفُ قذيفةٍ أخرى على الأبواب تنتظرُ الدخول.. قذيفةٌ أولى.. وثانيةٌ.. وثالثةٌ.. وعاشرةٌ.. صباحَ القصف.. يا أهلا وسهلا.. مرحبا يا خانيونس.. يا جباليا.. بيت لاهيا.. غزّة.. يا هيروشيما.. يا درسدن.. يا هانوي..
٭ ٭ ٭
يموتُ مَنْ ماتوا.. «بياناتٌ.. لقاءاتٌ.. حواراتٌ.. نداءاتٌ.. إداناتٌ.. تصاريحُ.. اتصالاتٌ..» وماذا بعدُ؟ ماذا؟ تبدأُ السهراتُ والويسكيُ أنهارٌ.. « وأمريكا تُبيح الموت.. ثمّ تحرّك الخيطانَ فوق المسرح الدمويّ.. والدولُ الصديقةُ مثلَ عادتها تطالبُ بالهدوء وبالتروّي…» نشرةُ الأخبار ترجو أطيبَ الأوقات فانتظروا هبوبَ النشرة الأخرى!
٭ ٭ ٭
يموتُ الميّتون.. يعاودون الموتَ… لا أحدٌ يسجّيهم.. ولا أحدٌ يشيّعهم.. ولا أحدٌ يزورُ قبورَهم.. أو يَشْكلُ الآسَ الدميعَ.. فلا قبورَ لهم.. لأنّ الأرضَ.. كلَّ الأرض مقبرةٌ
٭ ٭ ٭
يموتُ الميّتون.. يعاودون الموتَ.. والعبريُّ يشرب نخبَ آلاف الضحايا.. نخبَ طفلٍ ضائعٍ.. أو جائعٍ.. أو دامعٍ… أو نخبَ أمٍّ لم تجدْ بنتا.. وبنتٍ لم تجدْ أمّا لأنّ قذيفة في الليل لم تخطئْ فراشَهما.. ونخبَ الانتصار على الطفولة.. نخبَ آلاف الذين تبعثروا فوق الخريطةِ.. نخبَ مَنْ صار الصليبُ وسادَهُ الأبديّ.. أو صار النحيبُ نشيدَهُ الوطنيَّ.. نخبَ إبادة الإنسان.. نخبَ تفوّق الشيطان.. نخبَ جميع مَنْ قُتلوا..
٭ ٭ ٭
يموتُ الميّتون.. يعاودون الموتَ… تلفازُ العروبة ينتقي أحلى الأغاني للمشاهِد ثمّ يُعلن أنّ جوَّ اليوم سوف يكون معتدلا ربيعيّا يناسبُ نزهة.. ويبثُّ فيلما عن سلالات الضفادع ثمّ إعلانا تجاريّا عن الكولا.. لكنْ في القطاع وفي القطاع وفي القطاع يموتُ مَنْ ماتوا.. هنا لا صوتَ يعلو فوق صوت الموت في هذا الفضاء الفوضويّ.. ونحنُ نغلي فوق نيران الأثافي.. أشتهي عند الصباح حمامة تروي خوائي بالهديل.. ألوبُ في البيت المسيَّج بالتوجّس مثل لصٍّ… أفتحُ الصحفَ التي ولِدتْ حديثا ثمّ أغلقها سريعا فالنقيقُ هو النقيقُ..
٭ ٭ ٭
تسلّلوا من أسطر التلمود.. أهدونا النواحَ.. ومدّدوا هذا الهواءَ الرهوَ فوق أسرّة البارودِ.. باعونا ثيابَ الذئب.. ربّوا دمعَهمْ.. طرحوا الخرافةَ.. ذبّحوا رجلا يبيعُ نهارَ عينيه ويرهن قلبَهُ من أجل أرغفةٍ.. أو امرأة برتْ أقدامَها الطرقُ اللئيمةُ كي تعيلَ صغارَها.. أو أسرة نامتْ على الباطون في ليلٍ مطيرٍ تحت أغطيةٍ من الخيش المعفّر.. طفلة وهبتْ ضفائرَها لكفّ الريح.. تعلكها وطفلا في ندى ضحكاتِهِ ولعُ العصافير الصغيرة.. شاعرا صهلَ: الحياةُ جميلةٌ.. سأعيشها..
٭ ٭ ٭
عند الظهيرة يرتخي النحلُ المدندنُ في دمي أمشي على قلقٍ يسوسُ مشاعري وأعدُّ خطواتي.. أحرّكها على ورق الرياضيّات كي لا أوقظَ التنّينَ.. كي لا أجرحَ الصمتَ النفورَ.. أمارسُ التحديقَ في اللاشيء.. تسرقني احتمالاتُ الوفاة.. وأحرسُ الأفكارَ من قصفٍ فجائيٍّ يبعثرها.. أرجّعُ لحنَ أغنيةٍ تداعبُ قلبيَ المكسورَ والمكسوَ بالفوضى.. أجولُ كحارس بين الدقيقة والدقيقة.. ثمّ أُرخي أرسنَ الصلواتِ كي تعدو على درج السماء خفيفة.. وتقودني الصحراءُ في حلقي إلى دهليز مطبخنا.. يغازلني قنوطٌ دافقٌ عذبٌ زلالٌ حين لا أجدُ المياهَ.. فأحتسي دمعي.. وأحلقُ بالشتائم عانةَ الدنيا.. ويسألُ جارُنا بعد التحيّة: كم لبثنا / كم سنلبثُ في الجحيم؟ وكم يدوم تغلغلُ السكّين في لحم الضحيّة؟ هل نؤدّي دورَنا في المسرحيّة مثلما رسمَ المسدّسُ؟ من يقيّمنا؟ ومن يزن الأداءَ.. أداءَنا؟ هل يُحسنُ الشعراءُ وصفَ نهارِنا، ودوارِنا، وفرارِنا نحوَ المياه الباطنيّة في قصائدهم؟ وهل أهلُ السماء يتابعون صعودَنا اليوميّ نحو سمائهم؟ كم مرّة يتكرّرُ الموتُ الذي عشناه أو سنعيشه؟
٭ ٭ ٭
عند المساءِ تضيءُ قلبي العتمةُ الطلساءُ.. أغلي إذْ أفتّشُ عن مفاتيح النهار فلا أصادفُ أينما أمشي سوى قلقٍ من الآتي الذي يستنسخُ الماضي.. سوى قلقٍ من الماضي الذي يستنسخُ الآتي.. أنا في بطن حوتٍ يطحنُ الساعاتِ.. كلُّ دقيقةٍ دنيا يثقّبها الرصاص… أجوسُ مثلَ الدومريّ خلال منزلنا.. تهدهدني الكآبةُ فوق ركبتها.. أصادفُ شمعتين.. فأشكرُ الحظَّ البخيلَ على عطاياهُ الكثيرةِ.. جيّدٌ جدّا… سأبني لي من اللاشيء شيئا.. تسعلُ الولاعةُ الخرساءُ.. تصحو شمعةٌ.. ترفو ذبالتُها ليَ الجوَّ المبقَّعَ بالأنين وبالدماء
٭ ٭ ٭
فمَنْ له حقٌّ بإخصاء الحياة هنا؟ وهل عادتْ عصورُ الجاهليّة؟ مَنْ لهُ حقٌّ بعرش الله؟ هل للموتُ جنسٌ؟ مَنْ يكلّفهُ؟ وهل صار الدمُ العربيُّ أرخصَ ما عليها؟
٭ ٭ ٭
يطلقُ العبريُّ أسرابَ القذائف ثمّ يُردفها بزقزقة المدافع.. ينهضُ الفجرُ الذي يفتكُّ نفسَه من مخادنة الظلام.. ولا ننامُ سوى لماما.. لا ننامُ لكي ندامرَ خوفَنا.. كي نمنعَ الطيرانَ من تهجيج أحلام الذين يعانقون الموتَ غصبا..
٭ ٭ ٭
ينثرُ الطيرانُ عند الصبح آلافَ التحايا.. تُشنقُ الشمسُ النحيلةُ خلف أمواج الدخان.. يفرِّخُ العبريُّ كلَّ دقيقةٍ سمّا جديدا ثمّ يبكي حين لا تزداد أعدادُ الضحايا.. يمتطي الحقدَ الولودَ.. يدورُ حول نصاله زهوا ويبني للجريمة ألفَ طقسٍ فالجريمةُ أوكسجينُ حياته.. ويدورُ حول نصاله زهوا ويرقصُ فوق أجسادٍ.. يمرّغُ نفسَه بالانتصارِ / الوهمِ.. ينثرُ كيفما يهوى بقايا لحمنا المحروقِ والممهورِ بالفوسفور.. يعطي للثعالب ألفَ درسٍ حين يلتحفُ البراءةَ.. ليس لي دورٌ بما يجري يقولُ.. أنا المبرَّأُ والقتيلُ…! وهكذا يغتال بالكلماتِ مرآةَ الحقيقة.. يرتدي جسدَ الضحيّة.. يستعيرُ دماءَها الينبوعَ.. يُلبس صوتَه صرخاتِها يبني مناوحَ.. والضحيّةُ ترتدي طلقاتِ مدفعه المعبَّأ دائما..
٭ ٭ ٭
الآنَ ترتفعُ الستارةُ والإثارةُ من جديدٍ.. سوف تبدأ جولةٌ أخرى من اللعب المضرّج بالدماء وبالصراخ.. قلوبُنا موجودةٌ.. هي جولةٌ أخرى وتنويعٌ جديدٌ.. سوف نلبسُ غابةَ الإنصات.. كونشرتو يشيعُ الرقصَ في الأطراف.. تنثالُ القذائفُ من جديدٍ.. يبدأُ التصويرُ.. (غرْنيكا) معدَّلةٌ قليلا.. ريشةُ العبريّ.. أعني حقدَهُ المغموسَ بالفوسفور قد أعطى لـ (غرْنيكا) بيكاسو سحنة عربيّة..
- شاعر فلسطيني