أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
استكمالاً لدرس الأمس، الذي هو على ضوء نصٍ مهمٍ من خطبةٍ لأمير المؤمنين عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَام”، ويبيِّن في ذلك النص الحالات الإيجابية الصحيحة، التي هي وفق الرؤية الإسلامية الصحيحة لولاية الأمر وإدارة شؤون الناس، ثم أيضاً يبيِّن بعد ذلك الحالات المختلفة عنها، والنتائج المترتبة على حسب الحالات التي شرحها ووضحها.
وكنا قرأنا في الأمس بيانه “عَلَيْهِ السَّلَام” للحالة الإيجابية، التي فيها ولاةٌ صالحون، ورعيةٌ مستقيمة، والعلاقة فيما بينهم قائمةٌ على التعاون، على القيام بالحق وإقامته، وعلى أداء الحقوق، وثمرتها كما قال “عَلَيْهِ السَّلَام”: ((عَزَّ الحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدُّولَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الأَعْدَاءِ)).
ثم بدأ يبيِّن الحالات المختلفة عن ذلك، فقال “عَلَيْهِ السَّلَام”: ((وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الوَالِي بِرَعِيَّتِهِ))، حالتان سلبيتان وسيئتان ولكل منهما الأثر السيء جداً في واقع الناس:
– حالة: ((وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا)).
– وحالة أخرى: ((أَوْ أَجْحَفَ الوَالِي بِرَعِيَّتِهِ)).
إجحاف الوالي برعيته، إذا كان والٍ غير صالح، ليس جديراً بالمسؤولية، ولا في مستوى المسؤولية، وهمه منصبه، وهمه إحكام سيطرته، وتعزيز نفوذه، وهمه كذلك أن يسعى لتثبيت سلطانه على حساب مصالح الشعب وحقوقهم، فهو يسوس شعبه بالقهر، والغلبة، والاضطهاد، والظلم، وسياساته تجحف بشعبه؛ لأنها تصادر حقوقهم لحساب مصالحه، وإحكام سيطرته ونفوذه، وتثبيت سلطانه، هو يعشق المنصب، وهمه مصالحه، وهمه ما يفيده لتثبيت سلطانه، وهي الحالة الخطيرة جداً.
فهذا النوع من الولاة غير الصالحين، الذي همه أن يسخِّر إمكانات بلده، وقدرات وإمكانات دولته، لمصلحة سلطته، ومصالحه الشخصية، وحساباته الشخصية، تفكيره واهتمامه: كيف يضمن لنفسه البقاء في المنصب والسلطة إلى ما لا نهاية، وكيف يكسب المكاسب المادية التي يطمح إليها، من موارد بلده، وما يتوفر في شعبه، ولو على حساب مصالح شعبه، وبغير حق، وبالفساد، والظلم، والاستئثار، وأيضاً كيف يصفِّي حساباته مع من يتوهم فيهم، أو يعتبرهم أنهم يشكلون خطورةً، أو قلقاً على منصبه ومصالحه الشخصية؛ فهو يتمحور حول نفسه: كيف تبقى له سلطته، كيف يبقى له نفوذه، كيف يحصل على ما يطمع به من الأموال والثروات، كيف ينمِّي ثرواته ورصيده، وكيف يعزز نفوذه في واقع الناس، من خلال تبادل المصالح مع من يعتمد عليهم، سواءً في دولته، أو من أبناء مجتمعه، ليكونوا أعواناً له، مستفيدين معه، يرون أنفسهم يحصلون على المصالح تبعاً لمصالحه،، فيدخلون معه في تبادل المصالح، وفي مساندة ودعم بالباطل والظلم… وغير ذلك، فعندما يكون مُنْطَلقِه كذلك فهو يجحف بشعبه، يستأثر بالمال العام، والمصالح العامة، سياساته كذلك مع شعبه هي فيما يحقق له شخصياً المصالح الكبرى، ليس اتجاهه هو نحو شعبه، كيف يخدمهم، كيف يهتم بهم، كيف يعمل لصلاح أحوالهم، هو يريد أن يسخر بلده، وشعبه، وإمكانات الدولة بكلها، فيما يخدمه شخصياً؛ لأنه يتمحور حول نفسه، فيما يضمن له بقاءه في منصبه، ويعزز نفوذه وسيطرته، وينمِّي ثرواته… وغير ذلك.
وهذا- للأسف الشديد- هو الحالة التي كانت غالبةً على المستوى التاريخي لأمتنا الإسلامية في معظم القرون الماضية، وعلى مستوى الحاضر، الكثير من الولاة هم من هذا النوع، الذي همه المنصب، وليس همه لا طاعة الله، ولا خدمة الشعب، همه المنصب، وهمه مصالحه الشخصية، تكون المحصلة بعد سيطرته على المنصب لزمن معين: أنه قد نمَّى له ثروةً طائلةً جداً، المحصلة لأحد الرؤساء في بلدنا هي- بحسب التقارير الدولية، والتي تعتمد أيضاً على معلومات عمَّا حصل عليه، وعمَّا لديه من أرصدة في البنوك الخارجية- تُقدَّر بـ(ستين مليار دولار)، هذا المبلغ الهائل جداً، الذي حصده من ثروات شعبه، وموارد بلده التي هي حقٌّ عام للشعب، هذا المبلغ الضخم جداً كان كافياً لأن يبني البنية التحتية لبلدنا في كل الخدمات الأساسية: خدمة الطرق، خدمة الكهرباء، خدمة المياه، خدمة المدارس، الخدمات الصحية، والمستوصفات، والمستشفيات، والوحدات الصحية، والمراكز الصحية…. وغير ذلك، كل الخدمات الأساسية، كان ذلك المبلغ كافياً في أن يتوفر به بنية تحتية للخدمات بكلها، لكن هكذا هي النتيجة عندما يكون هناك ولاة همهم أنفسهم، مناصبهم، سلطتهم، ينطلقون من منطلق الأطماع الشخصية، والحسابات الشخصية، ويعمل على أن يكون واقعه من حيث الأعوان، ومن حيث من يقفون إلى جانبه من نوعيته تماماً، من يربطهم بمصالح معينة، ويفتح لهم المجال، وعلى حساب مصالح الشعب، وخيرات الشعب، وحقوق الشعب، وليكون الشعب هو من يعاني؛ بينما هناك فئة، ممن قد ارتبطوا مع بعضهم البعض بتلك المصالح والخيرات التي من حق الشعب، أصبحوا هناك أصحاب ثروات طائلة، إمكانات ضخمة، حياة في ترف، ورفاهية مبالغ فيها، والشعب يعاني الأمرِّين، ويذوق الويلات، يعاني البؤس، والحرمان، والمعاناة، ومعظم أبناء الشعب يتضورون جوعاً، لا يمتلكون ما يفي باحتياجاتهم الضرورية؛ بينما أولئك يكونون في حالة ترف كبير جداً، فهذه هي النتيجة التي تحدث عندما يكون هناك ولاة غير صالحين، يجحفون بشعبهم؛ لأنهم يستأثرون بالثروات، والخيرات، والمصالح العامة، ويسخِّرون الإمكانات والقدرات لمصالحهم، وتنشأ معهم وحولهم طبقة من نوعيتهم.
في تلك الحالة تكون النتائج سيئة جداً في واقع الأمة، وفي واقع الشعوب:
– أولها: ((اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الكَلِمَةُ)):
الكلمة تختلف، كلمة الناس؛ لأنه لم يعد الاتجاه اتجاهاً واحداً للولاة ولبقية الناس، لبقية المجتمع، بحيث يكون اتجاه الجميع من الولاة والمجتمع اتجاهاً في إطار المسؤولية العامة، والتعاون على إقامة الحق، وأداء الحقوق، ورعاية الصالح العام، أصبحت المسألة مختلفة. الشعب يرى ويدرك جيداً أن أولئك الولاة ليس لهم همٌ إلَّا أنفسهم، ومصالحهم، وراحتهم، ورفاهيتهم، وترفهم، وهو هناك مهملاً، مظلوماً، معذباً، تُنهب ثرواته وخيراته، يُظلم ويُقمع ويُستذل، ليس هناك اهتمام بأمره، ولا بقضاياه، ولا بأحواله، حالة سيئة جداً، فهنا تختلف الكلمة أولاً: ما بين الولاة والمجتمع، ولاة همهم آخر، اتجاههم آخر، يتمحورون حول أنفسهم، حول مصالحهم الشخصية، حول مناصبهم، عُشَّاق للمناصب، همهم أن يسيطروا عليها، وأن يضمنوا بقاءهم طوال حياتهم فيها…إلخ. والمجتمع هناك كذلك، يرى نفسه في اتجاه آخر.
بل أحياناً يكون من السياسات التي يعتمدها الولاة السيئون اتجاه شعوبهم: سياسة التفريق أيضاً، لا يكفي أن الاختلاف في الكلمة سيحصل تلقائياً، سيكون هناك اتجاه رسمي مختلف عن الاتجاه الشعبي، والاتجاه الشعبي ليس له من يرعاه ويوجهه الاتجاه الصحيح، فيتبعثر ويتفرق، هذه نتيجة تلقائية ستحصل، لكن مع ذلك أيضاً يستخدمون سياسة [فَرِّق تَسُد]، فيعملون- أصلاً- على التفريق بين الناس، تفريق تحت عنوين سياسية؛ لتقسيم المجتمع وبعثرته، وإثارة المزيد من الخلافات والانقسامات فيما بينه، والإشغال له بتلك الخلافات، والجدل، والمشاكل، وأحياناً حتى على مستوى المشاكل الاجتماعية، يعملون على تغذيتها وإثارتها، وإيقاد نيران الفتن بين أبناء المجتمع؛ حتى يغرق المجتمع في كثير من المشاكل، والهموم، والنزاعات، والخلافات، ويترك لهم الجو ليفعلوا ما يشاءون ويريدون، هم يستخدمون هذه السياسة، وهذا واضحٌ في حالهم، وعرفنا ذلك في تجربتنا في بلدنا، وحتى على المستوى الاجتماعي والقضايا الاجتماعية، كانت السلطة تغذيها، وتدعم الأطراف؛ ليستمروا في الاقتتال والفتن.
فهذا من النتائج- وهي نتيجة سيئة- من النتائج الخطيرة جداً للولاة غير الصالحين، من النتائج الخطيرة: بعثرت المجتمع؛ لأن المجتمع يرى نفسه هناك مهملاً، ويرى هَمَّ أولئك الولاة مناصبهم ومصالحهم، ويراهم في اتجاه آخر، لا يهمهم في شأن المجتمع ومن أمور المجتمع، إلَّا بالقدر الذي له ضرورة في مصالحهم، أو ارتباط بمصالحهم فقط، فيتجه المجتمع اتجاهاً انقسامياً مفرقاً، انقسام على مستوى الولاة والمجتمع من جهة، والمجتمع لم يعد هناك من يرعى له توجهه الصحيح، واهتماماته الصحيحة في أطار صحيح؛ لأن هذه كانت مسؤولية الولاة، إذا كان هناك ولاة صالحين، هم يهتمون بهكذا اهتمام، ويجعلون هذا من ضمن مسؤولياتهم، يدركون أنه من ضمن مسؤولياتهم الأساسية.
والواقع لأي بلد يتحول إلى حالة فرقة، واختلافات، ونزاعات، وتكثر الاختلافات والعناوين، تأتي منها مثل ما لاحظنا- مثلاً- في بلدنا: غُذيَّت الصراعات، والخلافات، والانقسامات، تحت كل العناوين: عناوين سياسية، عناوين مذهبية، عناوين اجتماعية، ومشاكل اجتماعية… وكل شيء كان يسيس، ويوسع، ويعمق، وهكذا، إشكالات كثيرة جداً.
– ((وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الجَوْرِ)):
(مَعَالِمُ الجَوْرِ): الطرق والأساليب التي تكون مستخدمة في واقع الناس في معاملاتهم:
– من جهة الولاة واضح: أسلوبهم، سياساتهم، ممارساتهم؛ جائرة، وظالمة، وغير مشروعة، ولا عادلة، فهم يمارسون الحيل، الظلم، الابتزاز، الاستغلال المحرم… وغير ذلك.
– ثم في واقع المجتمع كذلك: يظهر من بين المجتمع من يرتبط بمصالح متبادلة مع الولاة السيئين، ويحظى من خلالهم بالمساندة، وتهيئة الأجواء له ليتصرف كيف ما يشاء ويريد؛ فيمارس من جهته أيضاً الظلم والجور، فتصبح الممارسات، الأعمال، التصرفات، السياسات، الوسائل، الأساليب؛ التي يتحرك من خلالها الناس في أمورهم، وأمور حياتهم، وأمور معيشتهم، وأمور معاملاتهم، ومختلف شؤونهم، غير سليمة، ولا صحيحة، ولا إيجابية، ولا مشروعة؛ فتكون في معظمها تكون غير مشروعة وجائرة وظالمة.
فالأساليب التي هي أساليب غير مشروعة، والوسائل التي هي وسائل محرمة، والطرق التي هي طرق جائرة وظالمة؛ تصبح هي المتبعة، والمستخدمة، والمعتمدة بين الناس، يتعاملون بالحيل، والخداع، والظلم، والقوي يأكل الضعيف وكأنهم في غابة… وهكذا، تظهر معالم الجور بدلاً من معالم العدل، ((وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الجَوْرِ))، هذا من النتائج أيضاً.
– ((وَكَثُرَ الإِدْغَالُ فِي الدِّينِ)):
يكثر (الإِدْغَال) الإفساد للناس في أمور دينهم، بمعنى: أنه يحصل الكثير من التزييف والخداع للناس، في محاولةٍ للإفساد لهم عن دينهم، تُحسب أشياء على الدين والدين منها بُراء، لماذا؟ للتبرير، لتبرير ما هناك من فساد، الفساد، الظلم، الجور، المحرمات، المنكرات؛ يُبرر لها حتى باسم الدين زوراً وزيفاً وتحريفاً، وهذا يحصل وحصل، على مر تاريخ المسلمين يحصل هذا، تأتي التبريرات باسم الدين، في طاعة الظالمين، في التسويغ للظلم، في التسويغ للفساد، والمنكر، والفحشاء، والرذائل، يُسوَّغُ لها ويُوَّهن من أمرها؛ لانتشارها في واقع الناس، وللممارسات السيئة من قبل الولاة، يأتي التسويغ لها باسم الدين، وهذه كارثة وطامة كبرى.
(يَكْثُرُ الإِدْغَالُ فِي الدِّينِ)، وتكثر المخالفات التي تفسد على الناس التزامهم بدينهم، مخالفة للدين، مخالفة تكثر وتكثر وتكثر؛ حتى يتعود الناس، ويعتادون على ترك الالتزام بدين الله، والإعراض عن دين الله، وعن هدى الله، وعن تعليمات الله، وعدم الالتزام بتعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، تكثر لا تبقى فقط مجرد مخالفات فردية، غير ممنهجة، ولا معتمدة، ولا مُقرة، فتصبح سياسة معتمدة، وظواهر في الساحة، ظواهر اجتماعية، فتكثر الحيل، والمفاسد، والمحرمات، الهادفة أيضاً إلى إفساد المجتمع؛ لأن ولاة الجور والفساد والظلم، الولاة غير الصالحين يعتبرون أن من وسائل السيطرة على المجتمع: الإفساد للمجتمع، أن إفساد المجتمع وسيلةٌ لتدجينه لهم، وفعلاً المجتمع إذا فسد، فسد في أخلاقه، في قيمه، وفسد في معاملاته، انتشر الفساد في كل شيء؛ يصبح مجتمعاً لا يمكن أن ينهض بمسؤولياته المقدسة، في إقامة الحق، في إقامة القسط والعدل، في الوقوف ضد الظلم، ضد الإجرام والطغيان، ضد الفساد، كيف يمكن لمجتمعٍ أفسدته سلطته أن يكون هو ضد الفساد، وأن يتحرك ضد الفساد؟! فهم يعتبرون الإفساد للمجتمع وسيلة من وسائل تدجين المجتمع والسيطرة عليه؛ ولذلك الحالة خطيرة جداً، ثم يأتي الإضلال والتزييف للمفاهيم الدينية؛ لتبرير ذلك، والتوهين من شأنه.
– ((وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ)):
يعني: الطرق الواضحة من سنن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهدي نبيه، وشرعه، التي هي سنن واضحة، وطرق واضحة لإقامة الدين، والعدل، وللالتزام بها في واقع الحياة، تترك ولا يُلتَزم الناس بها، لماذا؟ لأن كل ذلك أصبح تحت سقف المصالح والأهواء، يصبح ما هو سائد ونافذ في واقع الناس هو: أهواء الولاة، ومن له علاقةٌ بهم، أو الأهواء التي تنسجم معهم، ولا تخالف مصالحهم، فالمشكلة من جهتهم هم (الولاة) في ممارساتهم، وأعمالهم، هم أولاً يتركون الحق، يفسدون الناس، يتَّجهون هذا الاتجاه السيء، ويتركون محاجَّ السنن، ثم المجتمع يحذو حذوهم في ذلك، يتَّبعهم في ما هو من جهتهم، ويتوسَّع في واقع المجتمع من غير ما يأتي من جهتهم؛ لأن الظروف نفسها، والبيئة نفسها، والأجواء نفسها، أصبحت أجواءً قابلةً لذلك، أجواء فاسدة، أجواء لم يعد فيها اتِّجاه بالناس في طريق الحق، والخير، والرشد، والزكاء، والهدى، والدين، أجواء منفلتة، تُضرَب فيها القيم، والأخلاق، ويُنبذ فيها شرع الله وهديه؛ ولذلك تظهر فيها المفاسد، فتكون المصالح، والأطماع، والأهواء، والرغبات هي الأصل، وما لم ينسجم معها من الدين، ومن شرع الله، ومن هدي الله، يُترك وينبذ، وإذا رأى أحدٌ من أولئك الولاة السيئين، أو أحدٌ من الناس من أبناء المجتمع، أن التزامه بما شرعه الله، أو بالطريقة الصحيحة التي هي معتمدة في دين الله، وهدي نبيه، لا تحقق له تلك الأطماع، أو تلك الرغبات والأهواء، نبذها وتركها، ولو كانت من الأمور الواضحة، فتأتي المخالفة للدين في كل مجالاته، وفي الأمور الواضحة جداً منه، التي هي واضحة للمجتمع، وبديهية في الدين.
– ((فَعُمِلَ بِالهَوَى)):
الذي يُعمَل به هو الأهواء، والرغبات، من أطماع، من شهوات، من أحقاد، أهواء الولاة أصبحت هي التي تعتمد فيما يُعمَل، وأهواء الناس- كذلك- مفتوحٌ لها المجال فيما ينسجم ولا يعارض أهواء الولاة السيئين.
– ((وَعُطِّلَتِ الأَحْكَامُ)):
أحكام الحلال والحرام، أحكام الإسلام تُعطَّل، لم يعد لها أي قيمة لدى الناس، ولا التزام بها في الواقع، والأحكام في المعاملات، أحكام العدل، لا يعمل بالعدل.
– ((وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ)):
وهي الحالة الخطيرة جداً هذه، عندما أصبح الهوى هو الأساس، كل ما كان لا يتَّفق مع الهوى يُعطَّل، ويُعمَل بالهوى حتى فيما كان ظلماً، فيما كان فساداً، فيما كان باطلاً، وتعطَّل الأحكام؛ لأنها تحت سقف الأهواء، وتحت سقف الأطماع والرغبات؛ بالتالي يكون الواقع الذي يعيش فيه الناس تلك الحالة واقعاً سيئاً، يؤثِّر على الناس حتى على زكاء أنفسهم، تأثيره خطير، يُفسد حتى التربية للناس، التربية للمجتمع، يتربى المجتمع وفق تلك الظروف والأجواء تربية سيئة؛ فتكثر ((عِلَلُ النُّفُوسِ)): أمراضها، أمراض النفوس المعنوية الخطيرة، الفتَّاكة، التي تذهب بإنسانية الناس، تُمِيت ضمائرهم، يفقد الناس الحياء، وتكثر العلل السيئة:
– الأطماع، يصاب الناس بداء الطمع، يستحوذ على نفوسهم، يتحركون وهم مهووسون بالأطماع، ومستعرةٌ فيهم نيران الطمع.
– الأحقاد.
– الحسد فيما بينهم.
– التنازع والتنافس بالباطل، وفي الحرام.
– التباهي على ما يأخذونه من المحرمات، ومن غير وجه الحق.
وهكذا، كثيرٌ من الأمراض التي تؤثر على الجانب التربوي للناس؛ فيألفون المفاسد، والرذائل، والمظالم، يتعوَّدون عليها، تصبح معتادةً عندهم، تهبط عندهم الكرامة النفسية، والشعور بالكرامة، فتتحول نفوسهم إلى نفوس دنيئة، تسرق، تنهب، تفسد، تمارس الظلم، تمارس الرذيلة، ترتكب الجرائم، يكون لهذا تأثير سيء جداً، تألف الدناءة، وتتعوَّد على الفسق، والغش، والفجور، تغيب عن الناس قيم مهمة، كـ: الصدق، والوفاء، والطهارة، والعفة، والإنصاف، والرحمة، تُغَيَّب قيم مهمة في واقع الناس.
فيصل الحال بهم إلى ما عبَّر عنه أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” بقوله:
– ((فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ)):
عندما تفسد النفوس، ويفقد الناس إنسانيتهم، وكرامتهم، وقيمهم الدينية والفطرية، ويتعوَّدون على الدناءة، والرذيلة، والفسق، وعلى الغش، والخداع، والفجور، والكبر، والمكر، والحسد، تنتشر فيهم الأمراض الفتَّاكة على المستوى المعنوي، يصلون إلى تلك الحالة:
((فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ))، مهما كان الحق الذي عُطِّل، مهما كان عظيماً في موقعه في الدين، وأهميته في الدين، وأثره في واقع الناس، حق مهم في دين الله، وحق يحتاجه الناس لصلاح حياتهم، وتتفرَّع عنه حقوق مهمة لهم هم في حياتهم، تصلح به أحوالهم، الحق يتعلق بحياة الناس: إمَّا في شؤونهم السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية… أو أي مجال من مجالات حياتهم، مهما كان ذلك الحق عظيماً ومهماً في دين الله، ومؤثراً يحتاجه الناس؛ لإيجابيته الكبيرة في حياتهم، وعطِّل، وتُرك، وشُطِب، لم يعد مقبولاً به في مقام العمل والالتزام، لا يستوحش الناس من ذلك، لا يستحون من الله، ولا يخجلون، ولا يستشعرون فداحة ذلك: أن تعطيل الحق المهم في دين الله، والذي يحتاجه الناس لصلاح حياتهم وأحوالهم، هو ذنب، هو جريمة، له تبعات ونتائج خطيرة عليهم، وأنه تفريطٌ في دينهم، فلم يعد عندهم لا حياء من الله، ولا تقوى لله، ولا قيمة في نفوسهم للحق، فيستوحشون من ذلك، يصبح عادي الموضوع جداً، يصبح الموضوع عندهم طبيعياً وعادياً، نفوسهم أصبح نفوس هابطة، ودنيئة، تتقبل ذلك، ولا تستوحش منه؛ وبالتالي لا يتَّخذون موقفاً؛ لأن النفوس قد فسدت.
– ((وَلَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ!)):
يعني: ولا يستوحشون لأن باطلاً من أسوأ الباطل، وأخطر الباطل، وباطل واضح جداً، ونهى الله عنه، وحذَّر منه، ولعن من يفعله، ولعن أيضاً من يسكت عنه، لا يستوحشون أنه فُعِل ذلك الباطل، فليكن ما كان، مهما كان سيئاً، وفظيعاً، وبشعاً، وخطيراً، وأتى التحذير الشديد منه في كتاب الله، وعلى لسان رسول الله “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، ومعلومٌ من الدين ضرورة مدى قبحه وفظاعته، لا يستوحشون منه، كأنه أمر عادي تماماً، يحصل ويسكتون عن ذلك، ثم تكثر هذه الحالة، حتى تتحول إلى ظواهر في واقعهم.
((وَلَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ!))، يعني: مهما كان حجمه، سوؤه، فظاعته، قبحه، تأثيره السيء عليهم في حياتهم، دناءته، لا يخجلون، لا يستحيون، لم يعد لديهم لا ضمير إنساني، ولا قيم أخلاقية فطرية، ولا عِفَّة، ولا كرامة، ولا شرف، كل هذه تذهب من واقع الناس، حالة خطيرة جداً، تصبح الساحة مهيَّأة، مهيَّأة لانتشار الجرائم، لانتشار المفاسد، لانتشار الرذائل، لانتشار المنكرات، لانتشار الفواحش، بيئة طاردة للقيم، للأخلاق، للدين، لم تعد متقبِّلة للحق.
– ((فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الأَبْرَارُ)):
حالة خطيرة جداً، الحالة تلك يذلُّ فيها الأبرار، الناس الخيِّرون من أبناء المجتمع، الذين فيهم خير، وفيهم صلاح، وفيهم بر، أهل القيم، والأخلاق، والمبادئ الصالحة، الذين هم أخيار المجتمع، والذين يمكن أن يكون لهم دور مهم في واقع المجتمع، لديهم الجدارة لأن يكونوا هم من يقودون المجتمع، ويتحركون به في الاتجاه الذي فيه الخير له في الدنيا والآخرة، فهم في مثل تلك الظروف والحالة في واقع المجتمع، يذلون، لم يعد لديهم قابلية في المجتمع، لم يعد المجتمع الذي قد فسد يتقبَّلهم، بل ينفر منهم، ولم يعد لهم قابلية لا لدى الولاة، الولاة سيئون، ولا لدى المجتمع الذي فسد مع ولاته، حالة خطيرة جداً.
((فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الأَبْرَارُ))، لم يعد لهم سماع، ولا تفاعل معهم، ولا استجابة لهم، وهم في حالة ذلة وقهر، ليس لديهم قابلية، ولا استجابة، ولا سماع من المجتمع، ولا من الولاة السيئين.
– ((وَتَعِزُّ الأَشْرَارُ)):
الأشرار الذين هم ولاة وهم سيئون، أو كذلك نظراؤهم وأمثالهم في المجتمع؛ لأن الولاة السيئين يتقبَّلونهم، يتقبَّلونهم ويتبادلون معهم مصالح متبادلة ومشتركة، فيكونون أعواناً لهم في المجتمع، وهم يكونون سنداً لهم لما يمارسونه في المجتمع، والأشرار هم أشرار، أصحاب شر، وشرهم أين يكون؟ في واقع المجتمع، في واقع المجتمع، ممارساتهم، جرائمهم، فسادهم، منكرهم، اعتداءاتهم، يعني: هم مصدر شر على المجتمع نفسه، ولكن يصبح لهم نفوذ، وسيطرة، وتغلُّب، ومكانة، ونفوذ، وتأثير، فيكونون هم الأصل في المجتمع، أصحاب الكلمة، أصحاب القرار، أصحاب التأثير، وبشرهم وفسادهم الذي سيعاني منه المجتمع حتماً، وهي حالة خطيرة جداً.
– ((وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ العِبَادِ)):
لأن الوزر يكبر؛ لعظائم الذنوب، وكثرة الفساد، وانتشار الجرائم، والانتهاك لحرمات الله، التي تتحول إلى ظواهر اجتماعية متَّسعة في الساحة بين أوساط الناس، من دون نكير، ولا منع، فمع كثرة الجرائم، وكثرة الفساد، وكثرة المظالم، وكثرة الانتهاك لحرمات الله، يعظم الوزر، ويكبر الذنب، وما يتبعه من سخط الله، وعذاب الله، والعقوبات التي منها عقوبات عاجلة في الدنيا، مع العذاب العظيم في الآخرة، فالحالة حالة تهلك الناس، حالة هلاك للناس، حالة تشكِّل خطورة بالغة على الناس.
((وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ العِبَادِ))، هذا كله في الحالتين:
– إمَّا أن يكون الولاة ولاة سيئين، فهم يتغلَّبون على شعوبهم من منطلق ما هم عليه من فساد، وأطماع، وأهواء، ورغبات، وهذا هي الحالة السائدة- كما قلنا- في التاريخ الماضي، وفي الحاضر، في واقع المسلمين للأسف الشديد.
– أو الحالة الأخرى، والتي هي أيضاً حالة خطيرة جداً، هي: حالة (إِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا)، يعني: كان هناك- مثلاً- دولة ضعيفة، حكومة ضعيفة، سلطة ضعيفة، لا تمتلك القدرة؛ نتيجةً لعدم تجاوب شعبها معها، واتجاهها اتجاه- فيما تريده، أو ترغب به- اتِّجاه إيجابي لصالح الناس، ولكن إذا لم يكن هناك استجابة من الناس؛ يتحول واقع الناس إلى واقع خطير، واقع يسيطر عليه من؟ ذوو النفوذ من الناس السيئين، يعني: تظهر في واقع المجتمع شخصيات لها نفوذ، وجهات لها نفوذ، لها تأثير، ولكنها تنطلق من منطلق رغباتها ومصالحها، وليس من النظرة العام.
نحن تحدثنا في بداية الحديث عن هذا النص المهم، عن أهمية الرؤية العامة، والمنطلق الذي ينطلق فيه الإنسان بناءً على ذلك، في شعوره بالمسؤولية العامة، وليس من منطلق شخصي نفسي، همُّ الإنسان نفسه، منصبه، أطماعه، أهواؤه، الانطلاقة العامة يتحقق بها الخير لكلِّ الناس، أنت وغيرك، لكن الحسابات الشخصية الضيِّقة، والنظرة الضيِّقة، التي هي في حدود شخصك أنت، أو أنت وفئتك وحزبك، هي لها تأثيرات سلبية جداً في واقع الناس، وينشأ عنها الكثير من المظالم، والمفاسد، والفتن.
فالحالة نفسها تتحول إلى بيئة مهيأة لذوي النفوذ، والمستغلين، والمتسلِّطين، يكون الشخص منهم أكبر من الدولة، لديه نفوذ، لديه تأثير، وهو يتحرك وفق مصالحه، مصالحه هو، إمَّا كشخصية: قائد عسكري مثلاً، أو شخصية قبلية، أو شخصية ذات وجاهة اجتماعية، أو شخص له ثروة مادية، وله نفوذ تبعاً لذلك… أو لأيٍّ من الاعتبارات المشابهة، فيكون هناك يتحكم وفق هوى نفسه، وليس من منظور رؤية عامة، ومنظور الحق أولاً وقبل كلِّ شيء، أولاً وقبل كلِّ شيء، هو يعتبر المسألة المهمة: ما يرغب به، وما يريده، المنظور الذي ينطلق على أساسه، هو منظور ما يريده، وما يهواه، وما يرغب به، وما يعتبره مصلحةً له، وما يرسِّخ نفوذه، ويحافظ على نفوذه وتأثيره… هكذا تكون حسابات ضيِّقة، وتظهر هناك حالات مشابهة، وحالات مشابهة، ثم يكون المجتمع بيئةً متصارعة، بين أصحاب النفوذ من المتسلِّطين، والطامعين، وأصحاب الأهواء، والمصالح الشخصية، والنظرة الضيِّقة، والمحدودة، والحسابات الشخصية؛ فتفسد حال الناس، تنتشر المظالم، الجرائم، يفقد الناس الأمن والاستقرار، تكثر الصراعات، تستعر نيران الفتن، ويسوء حال الناس، ولا يمكن لأي مجتمعٍ أن ينهضها وهو بهذا الشكل؛ ولذلك ينبغي الحذر من الحالتين:
– الحذر من أن يكون الوضع تحت سيطرة ولاة سيئين، ينطلقون من منطلق مصالح شخصية، وحسابات شخصية، وأهواء، وأطماع، وعُشَّاق سلطة، وعُشَّاق مناصب.
– والحالة التي يبقى الناس فيها بدون دولة قوية ترعاهم في الاتجاه الصحيح؛ وإنما تحت سيطرة نافذين، متسلِّطين، طامعين، من أصحاب الأهواء، يتحكمون كما يشاؤون ويريدون، ويعرقلون أي توجُّه يجمع الناس، يصلح واقعهم، أمورهم؛ لأنهم يفصِّلون كلَّ شيء في الواقع على حساب مصالحهم الشخصية، مهما كان الشيء في مصلحته للمجتمع، ومنفعته للناس، إذا لم يلبِ لهم هم مصالحهم الشخصية، وحساباتهم الشخصية، فهو غير مقبول، كل الأمور تخضع تحت سقف حساباتهم، مناصبهم؛ لأنهم من ذلك النوع الذي يتمحور حول نفسه، ولا يعطي للحق قيمة، هذه حالة خطيرة جداً.
وأيضاً من الخطورة أن يتَّجه الإنسان هذا التوجه، أن يتجه ليكون شخصيةً نافذة، متسلِّطة، تتحرك وفق أهوائها، وفق رغباتها، وفق حساباتها الشخصية، وفق أطماعها، هي حالة خطيرة جداً على الإنسان، حتى لو كان للإنسان رصيد جيد فيما مضى، كان باسم شخص مجاهد، أو ثائر، أو منطلقاً تحت عناوين إيجابية، أو في اتجاه ثوري، أو اتجاه جهادي مشرِّف في إطار الحق، والسعي لإقامة الحق، ثم عندما يأتي التمكين، يتغيَّر، ويحاول أن يتحول إلى نسخة مكررة من الآخرين، الذين كانوا فيما هم عليه، على ذلك التوجه السيء، شخصيات سيئة، متسلطة، ظالمة، لا تقبل بالحق، لا تخضع للحق، لا تستجيب للحق، تتحرك وفق أهوائها، رغباتها، أطماعها، أهوائها الشخصية، يتسلَّط، تعجبه أرض معينة؛ فيسطو عليها، ويسيطر عليها بغير حق، لماذا؟! لأنها قد أعجبته، ورغب فيها، رغبته هي الأصل والفصل، ولا يقبل بما يخالف رغبته، وأهواءه، وأطماعه.
البعض من الناس تحصل لهم مثل هذه الحالات، يكون ممن اتَّجه في مراحل معينة اتِّجاهاً جيداً، لكن يحصل الاختبار للناس، فالبعض من الناس في مراحل التمكين يتنكَّر ويكفر بما كان عليه من توجه سابق، ولو على المستوى العملي، لو كان على مستوى الانتماء لا يزال منتمياً، لكن على المستوى العملي، وعلى مستوى الممارسة والفعل، هو يتحول إلى نسخة مكررة من تلك النماذج السيئة التي عانى منها المجتمع لمراحل طويلة، كشخصيات متسلَّطة، ظلومة، غشومة، متكبرة، متجبِّرة، تنهب، تسطو، تظلم، تبطش، تحكم برغباتها على كل شيء، رغباتها فوق الحق، فوق العدل، فوق كل شيء.
ولذلك نحن نتوجَّه إلى كل الإخوة من المنتمين لأنصار الله، والمنتمين للاتجاه الثوري، في مسيرتنا القرآنية، وفي ثورتنا المباركة، يجب أن نستفيد من هذه الدروس، وأن يحافظ الإنسان على صدقه مع الله أولاً، وصدقه مع ما كان ينتمي إليه، من اتِّجاه قائم على أساس السعي لإقامة الحق، والالتزام بالحق، والخضوع للحق، وأن يحذر الإنسان، أن يحذر من حالة الغرور والكبر، التي تجعله يتجاوز الحق، ولا يقبل به، ويتحول إلى إنسان عنيد، العناد ضد الحق، والعناد في مقام الباطل، والظلم، والنهب، والسطوة، ليس مشرِّفاً للإنسان، لا يعبِّر عن شجاعة، ولا يعبِّر عن كرامة، الله توعَّد في سورة (ق)، وفي سورة (إبراهيم)، {كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}[إبراهيم: من الآية15]، عنيد: لا يقبل بالحق، هوى نفسه فوق الحق.
لا يجوز لأحد أبداً في مراحل التمكين، وهو ممن كان يتحرك باسم ثائر، أو باسم مجاهد، فإذا به في مرحلة التمكين يريد أن يفعل كما كان يفعل أولئك الذين ثار عليهم، على ظلمهم، على فسادهم، على طغيانهم، يريدون أن يكون متسلِّطاً، ناهباً، ظالماً، يريد أن تكون أهواؤه، رغباته، أطماعه، فوق كلِّ شيء، والإنسان إذا فتح المجال لطمع نفسه، وأهواء نفسه، وحساباته الشخصية، وتمحور حول ذاته، همه المنصب، همه النفوذ، همه ما يمتلك، وأن يسعى لامتلاك المزيد والمزيد، عينه أصبحت مفتوحة: أين هي الأراضي المناسبة؟ أين هي المناصب المهمة؟ أين هي الموارد المالية التي يمكن أن يأخذ منها، أو أن يسيطر عليها؟ حتى لو كان باسم اعتبارات أخرى، الإنسان ليس له صلاحية أن يتصرف كما يريد، لو كان تحت عنوان أنه يريد أن يدعم مجال عمله، هذا ليس بمبررٍ له أن يأخذ ما أراد وما شاء من هنا وهناك؛ لأنه ليس للإنسان صلاحية أن يأخذ كيفما أراد من المال العام، ليس لديه صلاحية أن يتصرف في ذلك كما يشاء ويرغب ويريد، والإنسان بذلك يسيء إلى نفسه، مهما كان رصيده الثوري أو الجهادي:
– أولاً: يحبط عمله، إن كان انطلق في الماضي على أساس توجُّه صادق مع الله، والتزام إيماني، ودافع إيماني، ودافع خيري، الإنسان يحبط عمله عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
– وثانياً: في الواقع، الإنسان يخسر قيمته، شرفه، كرامته، يصبح له سمعة سيئة بين أوساط الناس، وإذا كان يتوقع أنه قد أصبح شخصاً مهماً، ونافذاً، وقوياً، فغيره كان أقوى منه، كم من الظالمين، والمتسلِّطين، والطغاة، من كانوا أكثر طغياناً، أكثر حيلةً، أكثر جرأةً، أكثر تمكناً، وأكثر حتى فطنةً وذكاءً، وكيداً ومكراً، ولكن مكرهم كان إلى بوار، وكيدهم كان في تضليل؛ لأن الإنسان في تلك الحالة يصبح الله خصمه، يصبح في خصومةٍ مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وإذا كنت في خصومةٍ مع الله، مهما كنت مغروراً بنفسك، متكبراً في داخلك، وفي شعورك، أصبحت تحمل روحية الطغيان، والإجرام، والأنفة من القبول للحق، طامعاً، متجبراً، لا تتفاهم مع الحق، معانداً وعنيداً، لكن الله سيذلُّك؛ لأنه يذلُّ كلَّ مختال، ويهين كل جبار، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[إبراهيم: الآية20].
يقول أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” بعد أن شرح كل هذه الحالات الثلاث:
– الحالة الصحيحة الإيجابية، المتوافقة مع رؤية الحق، المتوافقة مع الرؤية الإسلامية والقرآنية والدينية، وهي: أن يكون هناك ولاة صالحون ورعية مستقيمة، ويتعاون الكل فيما بينهم على إقامة الحق، وأداء الحقوق، ولها كل النتائج المهمة.
– ثم الحالة الخطيرة والسيئة: الولاء السيئون وما ينتج عن ذلك.
– والحالة الثالثة: الرعية غير المستقيمة، التي لا تقبل بولاة صالحين، وتتحول إلى بيئة خاضعة لمتسلِّطين نافذين.
ثم عاد إلى الموضوع المهم، فقال “عَلَيْهِ السَّلَام”:
((فَعَلِيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ))، يعني: في إقامة الحق، وأداء الحقوق، والاتِّجاه الصحيح الذي فيه الخير للناس جميعاً.
((وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ))؛ لأنه يحتاج إلى تعاون، والله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة: من الآية2]، وأيضاً أن يكون هذا التعاون تعاوناً حسناً، يعني: يكون هناك تفاهم، يكون هناك تجاوب، استجابة، يكون هناك أداء صحيح، حتى التعاون يحتاج إلى أن يكون تعاوناً حسناً، مثلاً: البعض من الناس وهو في سياق يريد أن يعين، لكن أسلوبه، طريقته سيئة، ومسيئة، ومستفزة، وليست بشكلٍ صحيح.
((فَلَيْسَ أَحدٌ- وَإِنْ اشْتَدَّ عَلَى رِضَى اللَّهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي العَمَلِ اجْتِهَادُهُ- بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَاعَةِ لَهُ))، يعني: ليس هناك أحدٌ يستغني عن تعاون الآخرين معه، ((وَإِنْ اشْتَدَّ عَلَى رِضَى اللَّهِ حِرْصُهُ))، يعني: مهما كنت في إيمانك حريصاً على رضوان الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومهما طال في العمل اجتهادك، أنت مستمرٌ في العمل، لا تكلُّ ولا تَملُّ، وفي نفس الوقت تبذل جهدك في ذلك، فأنت لن تستغني عن أن يعينك الآخرون، تحتاج إلى أن يعينك الآخرون، بل كلما كان موقع المسؤولية أكبر؛ كلما كان الإنسان أحوج إلى أن يكون هناك تعاونٌ معه.
((فَلَيْسَ أَحدٌ- وَإِنْ اشْتَدَّ عَلَى رِضَى اللَّهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي العَمَلِ اجْتِهَادُهُ- بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَاعَةِ لَهُ))؛ لأن حقَّ الله عظيمٌ جداً علينا، وحجم المسؤولية كبيرٌ جداً؛ ولذلك يحتاج الناس إلى تعاون.
((وَلَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ: النَّصِيْحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ))، النصح، التعاون الصادق، والتنبيه كذلك، الإنسان يبذل الجهد في الإعانة في العمل بشكلٍ ناصحٍ صادق، يُذكِّر أيضاً.
((وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الحَقِّ بَيْنَهُمْ))، التعاون قضية أساسية، ولذلك الإنسان حتى الذي ينطلق بحسن نية، ولديه تصور أنه سيفعل كل شيءٍ لوحده، هذا غير صحيح، مهما بذل من جهد، يبقى أداؤه محدوداً، بحدود قدراته وإمكاناته كإنسان، مهما بذل من جهد، لابدَّ من التعاون.
((وَلَيْسَ امْرُؤٌ- وَإِنْ عَظُمَتْ فِي الحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ- بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ))، أي إنسان مهما كانت منزلته وموقعه، لديه مسؤولية كبيرة، وهو فيما هو عليه من مستوى إيماني مستوى عظيم، مستوى الكفاءة والمعرفة، لا يصل أحد إلى مستوى أن يستغني ولا يحتاج إلى من يعينه في أداء مسؤولياته، الكل بحاجة إلى التعاون.
((وَلَا امْرُؤٌ- وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ العُيُونُ- بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ))؛ لأنَّ الكل يستطيع أن يسهم، ويكون لإسهامه تأثير، أن يُعِين، ويكون لتعاونه قيمة، وأهمية، وتأثير، وهذه هي الحالة الصحيحة: أن يتعاون الجميع.
(فأجابه “عَلَيْهِ السَّلَام” رجلٌ من أصحابه بكلامٍ طويل، يُكثر فيه الثناء عليه، ويذكر سمعه وطاعته له)، يعني: أحد أصحاب أمير المؤمنين “عَلَيْهِ السَّلَام” قام فأثنى كثيراً على أمير المؤمنين، ومدحه، وأكَّد استجابته وسمعه وطاعته له، (فقال “عَلَيْهِ السَّلَام”)، هذا درسٌ عظيمٌ جداً: ((إنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلَالُ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ، وَجَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ، أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ- لعِظَمِ ذَلِكَ- كُلُّ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ، وَلَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا ازْدَادَ حَقُّ اللهِ عَلَيْهِ عِظَماً)).
لحظوا هذا درس مهم؛ لأن الكثير من الناس يعجبه أن يسمع المديح من الناس، ويرتاح لذلك، وهذا حال أكثر المسؤولين عادةً في الدنيا، يريد من الناس أن يمدحوه، فإذا أتى أحد ليمدحه؛ ارتاح لذلك، ثم تكون انطباعاته إيجابية جداً تجاه من يمدحه، بل البعض من الناس يجعل هذا معياراً في موقفه من الناس، من منهم يمدحه، فيثني عليه، ويرتاح له، ويحمل تجاهه انطباعات مهمة، بل حتى في أدائه للمسؤولية يلحظ ذلك الذي يمدحه، ليكافئه على مديحه بموقع، أو بمنصب… أو بأي شيء، وهي حالة سلبية.
الإنسان في موقع المسؤولية ينبغي ألَّا يكون طلَّاباً للمديح، ولا محباً للإطراء، ولا مركِّزاً على ذلك، ولاحظوا هذا النموذج العظيم أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام”، الذي قدَّم نموذجاً عظيماً في الكمال الإيماني في موقع المسؤولية، هو يشدُّ الناس إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وإلى تعظيم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وإلى اعتبار ما دون الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” صغيراً، ضعيفاً، عاجزاً؛ ولذلك قال: ((أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ- لعِظَمِ ذَلِكَ- كُلُّ مَا سِوَاهُ))، يعني: كل ما سوى الله، وينبِّه على أنَّ الإنسان إذا عَظُمَت نعمة الله عليه في دينه، ودنياه، وواقعه، ووجاهته؛ فالمسؤولية عليه أكبر، عليه أن يستشعر نعمة الله عليه، وأن يزداد تعظيماً لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن يدرك أنَّ حقَّ الله عليه أعظم.
ثم يقول: ((وَإِنَّ مَنْ أَسْخَفِ حَالَاتِ الوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ، أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الفَخْرِ، وَيُوْضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الكِبْرِ))، يعني: حالة سخيفة جداً للولاة، إذا كانت النظرة إليهم (عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ): عند الناس الصالحين، فيلحظون فيهم أنهم يحبون الفخر، ويحبون المديح، ويحبون الثناء، البعض يتحول هذا إلى مطلب له من المطالب التي يسعى لها، فهو يسعى إلى أن يحصل على المديح من الناس، ويسخِّر إمكانات لذلك.
في عالم اليوم، وعالم الأمس، الزعماء، والولاة غير الصالحين، كم يسخِّرون الإمكانات لهذا الغرض، إمكانات للدعاية والإعلام، التي تتحدث دائماً بتعظيمهم، وتبجيلهم، وتمجيدهم أكثر من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لدى الناس، وبشكلٍ مستمر، بل يبحثون عن الألقاب الكبيرة، عن أكبر وأضخم الألقاب؛ ليعظَّموا بها، ويلقَّبوا بها، فتأتي مثل ألقاب: الفخامة، وملك الملوك، والجلالة… وكل التعبيرات، يعني: البعض منهم لم يترك تعبيراً يرى فيه أنه أكبر تعبير للتعظيم يمكن أن يستخدم لغير الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” إلَّا وأطلقه على نفسه، وهي حالة سيئة جداً، هذا النوع من الناس لم ينطلق في أدائه للمسؤولية من منطلق إيماني، ولم يستشعر حتى خطورة الموقع الذي هو فيه، أنه موقع فتح الله له فيه حساباً للمسؤولية، بحسب مستوى مسؤوليته تلك وموقعه ذلك، فهي حالة سيئة جداً؛ لأن البعض من الناس إذا أصبحت هذه حالته، فتكون هذه الحالة هي- بنفسها- تفتح المجال للمتملِّقين، عندما يعرفه الناس أنه من هذا النوع؛ يتملَّقون إليه بالمديح، والثناء، والتعظيم، والتمجيد، فيصلون إلى مبتغاهم غير المشروع، إمَّا مناصب، وليسوا بأكفَّاء لها، ليسوا كفؤين لها، وإمَّا مبتغاهم من مطامع مالية، أو امتيازات يحصلون عليها؛ لأنهم يعرفون أنَّ السوق عند هذا النوع من الناس، هو: التملق، ينفق في سوقهم التملق، ويكون وسيلةً إليهم، وصلةً لتحقيق ما يريدونه منهم.
وأيضاً إذا كان الإنسان يعيش هذه الحالة، فهو لن ينتبه لجوانب القصور لديه، ولا النقص في واقعه، ولا الجوانب التي تحتاج إلى تلافٍ؛ ولذلك سيعيش حالة الغرور، والعجب بالنفس، والحالات السيئة.
((وَيُوْضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الكِبْرِ))، وهي حالة خطيرة جداً؛ لأن بعض من الناس يطغى، يتحول إلى متكبر عندما يصل إلى موقع مسؤولية، ثم يسمع الناس، أو البعض منهم، يمجِّدونه، ويعظِّمونه، ويتحدثون عنه بالألقاب الكبيرة والضخمة، يتملَّقون له، فيعيش حالة الكبر، وهي حالة خطيرة جداً.
يقول “عَلَيْهِ السَّلَام”: ((وَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الْإِطْرَاءَ وَاسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ، وَلَسْتُ- بِحَمْدِ اللهِ- كَذَلِكَ))، هذا نموذج راقٍ وعظيم، يكره أن يكون (جَالَ فِي ظَنِّهم) ظنوا ذلك: أنه يحب أن يسمع منهم الإطراء، يعني: المبالغة في المديح، وأن يتخاطبوا معه بالثناء، والمديح، والتبجيل.
((وَلَسْتُ- بِحَمْدِ اللهِ- كَذَلِكَ، وَلَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ العَظَمَةِ وَالكِبْرِيَاءِ))، تجد أمير المؤمنين كيف كان ذائباً في الله، ذائباً في الله، يشد الناس دائماً إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ بينما الطغاة، والجبابرة، والولاة السيئون، يجعلون أنفسهم المنتهى، منتهى التعظيم لهم، منتهى التمجيد لهم، منتهى الطاعة لهم، منتهى الخضوع لهم، يجعلون أنفسهم السقف فوق رؤوس الناس فلا يتجاوزونه.
((وَرُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ البَلَاء))، يعني: ربما يستحلي الناس أن يثنوا: أن يمدحوا وأن يشيدوا بمن بذل الجهد في الاهتمام بأمرهم، والإحسان إليهم، قد يكون أحياناً ليس كل المديح يأتي مجرد تملُّق، هناك فعلاً من الناس من يكون ثناؤهم بناءً على ما لمسوه من جهد، من اهتمام، من صفات كمال، من اهتمام جاد، من أعمال صالحة، من جهد حقيقي بُذِلَ لمصلحتهم، ولخدمتهم، وللاهتمام بأمرهم، ولكن مثل هذا الثناء، ليس من الضرورة أن يكون في وجه الوالي، وأن يُسمِعُوه، يذهبون إليه ليتخاطبوا معه بتلك الطريقة.
((فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ، وَإِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا، وَفَرَائِضَ لَابُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا))، يقول: لا تثنوا عليَّ، اتركوا الثناء، لست أريد منكم الثناء والمديح، لست طلَّاباً للمديح، أنا أعتبر نفسي أنِّي في مقام مسؤولية، ولا يزال عليِّ الكثير والكثير مما ينبغي أن أبذله في أداء مسؤوليتي هذه، وهكذا هي روحية الولاة الصالحين، والروحية التي يحملها كل إنسانٍ مؤمن، يعتبر نفسه مهما بذل مقصِّراً، ويعتبر نفسه في مقام لا يزال عليه الكثير والكثير؛ لأنه لا يعيش حالة الغرور، ولا العجب بالنفس، ولا التكبر؛ بينما البعض من الناس إذا فعل القليل القليل، كان كالدجاجة، التي إذا وضعت بيضة واحدة تصرخ الكثير، وتصيح وتصيح وتصيح الكثير والكثير والكثير، والناتج هو بيضة واحدة، فالبعض من الناس يتباهى، ويزعج الناس، ويتمنن عليهم كثيراً كثيراً كثيراً، ببعضٍ من الجهد عمله، أو خدمة قدَّمها، هي في إطار مسؤولياته.
بل نجد في واقع الزعماء، والملوك، والأمراء، أنَّ البعض يعتبر ما قدَّمه لشعبه، من حقوق شعبه، من موارد شعبه، من ثروات شعبه، أنه صدقةٌ على شعبه منه، أو هديةٌ منه لشعبه؛ فيتمنن على شعبه بذلك، إذا قدَّم لهم شيئاً من حقهم، مما هو لهم، يتمنن به عليهم ليل نهار، وهم من أكثر الناس تمنناً: الملوك، الزعماء، الأمراء، المسؤولون، عادةً ما يكون أكثرهم من هذا النوع، الذي يتمنن على الناس دائماً وأبداً إذا قدَّم شيئاً لهم مما هو حقٌّ لهم من ثرواتهم، أو قدَّم خدمةً لهم، أو عمل شيئاً مما هو عليه من المسؤولية أصلاً.
أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” يقدِّم النموذج العظيم، والراقي، والقدوة، لا يريد الثناء، ولا المديح، ولا يبحث عن تلك الألقاب الكبيرة والضخمة، ألقاب التبجيل التي يستخدمها الزعماء، والملوك، والرؤساء، ولا يبحث عمَّا يبحث عنه الآخرون من حسابات شخصية، يقول: أنا مسؤول أمام الله، وحقُّ الله عليَّ عظيمٌ جداً، ولا يزال عليَّ الكثير مما عليَّ أن أعمله.
ثم يقول لهم: ((فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الجَبَابِرَةُ، وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ البَادِرَةِ))، لا تتكلموا معي وأنتم في حالة خوف، خوف لا تجرؤون على أن تقولوا لي شيئاً مما تريدون أن تقولوه، وهذه مسألة مهمة في العلاقة ما بين المولى والمجتمع، لا يجوز أن تكون علاقة خوف، وعلاقة رهبة، وعلاقة يخاف الواحد من أن يقول ما يريد أن يقوله من كلام حق، أو مطلب حق، أو تعبير بحق.
((وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ البَادِرَةِ))، لا تكونوا متحفِّظين ومتحرِّجين من أن تتخاطبوا معي كما هو الحال بالنسبة لأهل البادرة: أهل الحدة والغضب والانفعال، الذي لا يتيح لك المجال لا لتراجع في موضوع، ولا تتحدث عن قضية، ولا لتتخاطب معه عن أمر، ولا لتقدم إليه نصيحة، ولا لتقول له مقولة حق؛ لأنه سرعان ما يغضب عليك، وينفعل معك، ويفتح مشكلةً معك، وقد يتخذ إجراءً ضدك، أمير المؤمنين يقدِّم قدوةً عظيمة.
((وَلَا تُخَالِطُونِي بِالمُصَانَعَةِ))، يعني: لا تكونوا متعاملين معي في موقعي في المسؤولية، واختلاطكم معي في نطاق عملي ومسؤوليتي (بالمصانعة): بالمجاملة والمداهنة.
((وَلَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي))، يعني: تكلموا معي بالحق لا تقلقوا، لا تظنوا أنني سأستثقل ذلك منكم، سيكون ثقيلاً عليَّ، ومزعجاً لي، وأغضب عليكم، أنا أريد الحق، وأسعى للحق، وأهدف لإقامة الحق، وأعمل لإقامة الحق، وأريدكم أن تكونوا أعواناً لي لإقامة الحق، هكذا يقول لهم.
((وَلَا التِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي))؛ لأن موضوع الحق أهم عندي من نفسي، لست غارقاً في نفسي، والتمحور حول ذاتي، والتعظيم لنفسي، همي هو رضوان الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وإقامة الحق، وإنجاز المسؤولية التي عليَّ أمام الله.
((فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ، أَوْ العَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلِيْهِ، كَانَ العَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ))، فعلاً، من ينزعج ويغضب ويستاء إذا عُرِضَ عليه الحق، أو العدل، وتكلم الآخرون معه بمقالة حق، أو عرضوا عليه العدل في قضية معينة، فبمجرد أنها تخالف رأيه الشخصي، أو لا تسوغ له لاعتبارات تعود إلى هوى نفسه؛ يتخذ موقفاً سيئاً، أو بدافع الكبر والغرور والعجب يتخذ منها موقفاً سيئاً. الحالة الإيجابية الصحيحة: أن يكون لدى الإنسان تقبل وارتياح، إذا سمع الحق؛ يتقبَّله، يتفاعل معه، إذا أُشِير عليه بحق؛ يتقبَّله، يتفاعل معه، إذا سمع مقولة عدل، أو عُرِض عليه عدل في قضية معينة؛ يتفاعل مع ذلك… وهكذا.
((فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئ، وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّيِ))، يقول: أنا لست مغروراً بنفسي، وأنا لا أتَّكل على نفسي، اعتمادي فقط هو على الله، أنا لا أضمن نفسي إلَّا بما يوفِّقني الله له وفيه، اعتمد فقط على توفيق الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهكذا هي الروحية الإيمانية، كان نبي الله “صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” يستعيذ بالله من أن يَكِله الله إلى نفسه، يعني: حالة أبعد ما يكون الإنسان فيها عن الغرور، وعن العجب، يعتبر نفسه إنما يتَّكل على الله، يتوكل على الله، يلتجئ إلى الله، وأنه بدون توفيق الله، بدون هداية الله، بدون رعاية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لا يضمن نفسه، يمكن أن يخطئ، يمكن أن يتصرف بشكلٍ خاطئ، لكن فقط أمله بالله، واعتماده على الله.
((فَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ))، لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ((يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيْهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ))، فلسنا شيئاً إلَّا بتوفيقه، ولن نستقيم إلَّا بهدايته ومعونته، لا نغتر بأنفسنا.
((فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالهُدَى، وَأَعْطَانَا البَصِيرَةَ بَعْدَ العَمْى))، فنحن بحاجة دائمة إلى رعايته، إلى توفيقه، إلى هدايته “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، إلى أن يمدنا بالبصيرة والنور، ثم أن نتعاون فيما بيننا، نتواصى بالحق، نتواصى بالصبر، نتناصح، وبالطريقة الصحيحة للتناصح، نتعاون، وبحسن التعاون، لا تحتاج مسألة التعاون والنصح إلى إساءة وتجريح في واقع التَّوجُّه فيه إيجابي، والتَّقبُّل فيه قائم.
نَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛