صنعاء – سبأ:
نص الدرس الثاني لقائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، من حكم أمير المؤمنين علي “عَلَيْهِ السَّلَام” الأحد 3 ذو الحجة 1445هـ/ 9 يونيو 2024م:
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في سياق ما تحدثنا عنه بالأمس، من الحديث على ضوء نصوص من كلام أمير المؤمنين عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَام”، وحكمه المفيدة، التي هي قبسٌ من نور القرآن الكريم، وهدي النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، ونتحدث فيما يتعلق بولاية الأمر وإدارة شؤون الأمة؛ باعتبار هذا الموضوع من المواضيع المهمة، التي ينبغي أن يكون لدينا جميعاً تجاهها رؤيةٌ صحيحة، وفهمٌ صحيح، ونظرةٌ صحيحة؛ لأن البعض من أبناء الأمة:
إمَّا أن يكون- كما قلنا بالأمس- متأثراً بالرؤية الغربية، داعياً إليها، منشداً إليها، بل يعمل من أجل أن تسود هي في واقع الأمة.
وإمَّا أن يكون أيضاً متعلقاً بمفهومٍ خاطئ، ونظرةٍ سلبية؛ مكَّنت الطغاة، والجبارين، والظالمين، والمستكبرين، من السيطرة على الأمة، وتُدجِّن الأمة لهم، وتُعَطِّل المشروع الإسلامي العظيم، في جانبه المتعلق بإقامة الدين؛ وبالتالي صلاح حياة الناس، وفي إقامة القسط، وفي البناء الحضاري الإسلامي للأمة.
نبدأ اليوم من قول أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام”، فيما رواه عبد الله بن عباسٍ “رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا”، قال: ((دخلت على أمير المؤمنين علياً “عَلَيْهِ السَّلَام” بذي قار))، ذي قار موضع بالقرب من البصرة، كان أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” مسافراً إلى البصرة في إطار حملته لتصدي للناكثين، فعندما وصل إلى هذا الموضع استقر فيه لبعض الوقت، فدخل عليه عبد الله بن عباس وهو يخصف نعله [حذاءه يصلحه]، ((فقال لي: مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعل؟ فقلت: لا قيمة لها))، ليست كأحذية وملبوسات بعض الأمراء والملوك، الذين قد يكون ثمن ما يلبسونه ويستخدمونه من أغراضهم الشخصية، على مستوى الملابس، على مستوى الأحذية، ثمناً كبيراً جداً وغالياً؛ لأنها من أفخر وأغلى الأشياء، أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” في تلك المرحلة وهو على رأس دولة الإسلام، التي تحتها أقطار كثيرة: ما يسمى الآن بدول الخليج بكلها، والجزيرة العربية بأجمعها، واليمن، والعراق، وإيران، وأجزاء من بلدان أخرى، ومصر أيضاً في تلك المرحلة، يعني: أقطار واسعة، وهو على رأس دولة الإسلام، في نطاقها الواسعة جداً وإمكاناتها الضخمة، وقيمة النعل الذي يلبسه متواضعة جداً، لا قيمة لها.
((فقلت: لا قيمة لها. فقال “عَلَيْهِ السَّلَام”: وَاللهِ لَهِيَ أَحْبُّ إِليَّ مِنْ إِمْرَتِكُم، إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقًّا، أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً))، يعني: ذلك النعل، ذلك الحذاء الذي يلبسه في قدمه، ولا قيمة له؛ لأنه متواضع جداً، ليس من النوع الذي له قيمة غالية، أو ثمن مرتفع، هو أحب إلى أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” من أن يكون أميراً على دولة الإسلام في نطاقها الواسعة، الذي يشمل كما قلنا: الجزيرة العربية، وما يسمى بدول الخليج، والعراق، ومصر، واليمن، وإيران، وأجزاء من بلدان أخرى، مما كانت في إطار الاتحاد السوفيتي سابقاً، أو كانت في المراحل التاريخية في إطار فارس، بعض تلك البلدان: من باكستان، من أفغانستان، طاجيكستان، أوزباكستان… دول كثيرة يعني، أجزاء منها كانت آنذاك تحت سيطرة دولة الإسلام، ففي تلك المرحلة كان الشام فقط في تلك المرحلة الذي لا يزال تحت السيطرة الأموية؛ أمَّا بقية العالم الإسلامي- آنذاك- فكان في إطار دولة الإسلام، إطار نطاقٍ واحد ودولة واحدة، والموقع الرسمي أن يكون الإنسان أميراً للعالم الإسلامي، بما فيه من أقطار، وبلدان، وأمَّة، وإمكانات، وثروات، هذا الموقع، بهذه الأهمية، بهذا المستوى، ليس له قيمة عند أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” بمستوى ذلك النعل الذي يلبسه في قدمه، وهو من أقل النعل قيمةً، من أقل الأحذية قيمةً.
هذا الموضوع يحتاج إلى تأمل، إلى تدبر؛ لاستيعاب مدى أهمية هذا الكلام؛ لأنه كلام كبير جداً، يعني: عندما نقارن بما لا قيمة له هذا المنصب، هذا الموقع، هذا الدور، هذا التمكين والنفوذ، أن تكون أميراً للعالم الإسلامي بما فيه من بلدان وأقطار، ثم نجد أن هذا لا يسوى بكله عند أمير المؤمنين عليًّا “عَلَيْهِ السَّلَام” ذلك النعل البسيط، الذي لا قيمة له، يلبسه في أحد قدمين، لماذا؟
أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” هو الذي قال عنه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”: ((عَلِيٌّ مَعَ القُرْآنُ))، كان عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” في رؤيته، في تربيته، في روحيته، في اهتماماته، في نظرته، قرآنياً بكل ما تعنيه الكلمة، مطبوعاً بطابع القرآن الكريم، كان قرآناً ناطقاً يتجسد في موقفه، في رؤاه، في تحركاته، في مشاعره القرآن الكريم، ودين الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وتعاليمه. هذا مدخل مهم، في كيف تكون نظرتنا ورؤيتنا لمسألة المناصب ومواقع المسؤولية.
عندما نأتي إلى الحالة السائدة لدى الناس، كيف هي رؤية أكثر الناس، أكثر أبناء المجتمع ونظرتهم إلى المنصب، المناصب ومواقع المسؤولية بمستوياتها المختلفة، من أبسط منصب وأقل موقع للمسؤولية، إلى أعلى مستوى من مستويات المسؤولية؟ نجد أن الشيء السائد لدى الناس: أن ينظروا إلى موقع المسؤولية، إلى المناصب بشكلٍ عام- بحسب طموحاتهم- إلى أنها ذات أهمية كبيرة جداً جداً، وذات قيمة عالية، يبذلون من أجلها الغالي والنفيس، ونظرتهم إلى أهميتها هذه، نظرتهم إلى قيمتها في نفوسهم، ليست من المنطلق الذي تحدث عنه أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام”: ((إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقًّا أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً))، لا، هناك نظرة باعتبارات أخرى، ومن منطلقات أخرى، ونتحدث على نحوٍ من التفصيل مع الاختصار في ذلك.
الكثير من الناس يعشق المنصب، الكثير من الناس حتى لو لم يكن في منصب من المناصب، يتمنى- هي أمنية بالنسبة له- يتمنى أن لو كان في منصب، يتمنى أن لو كان أميراً، أو ملكاً، أو رئيساً، هذه بالنسبة له أمنية كبيرة جداً، ولكن عندما يراها- وحالة الكثير من الناس- قد يراها في قائمة المستحيلات، فقد يتجه في أمنيته إلى ما هو أكثر قرباً بالنسبة له، أو تعقلاً بالنسبة له، شيء منطقي إلى حدٍ ما، أن لو كان وزيراً، أو محافظاً، أو مسؤولاً في نطاق معيَّن، بل البعض يتمنى أن لو كان في مستوى- مثلاً- أن يكون جندياً، أو أن يكون مديراً ولو في نطاق محدود جداً، على قسم معيَّن، أو في أي مستوى من مستويات المسؤولية، وأي موقع من مواقع المسؤولية، يتمنى ذلك، لكن البعض من الناس يرى أن ذلك ليس متاحاً بالنسبة له، ليس في إطار الممكن بالنسبة له، بحسب ظروفه وواقعه.
البعض من الناس لديه أمل بأن يصل إلى مستوى معيَّن، إلى موقع معيَّن، وقد يبذل الجهد في ذلك، يسعى بوسائل كثيرة مما يراها وسائل مُقَرِّبة، بحسب ظروف زمانه ومكانه، الظروف السياسية، والاعتبارات القائمة في بلده، أحياناً- مثلاً- من خلال علاقات مُعَيَّنة، تَزَلُّف مُعيَّن، أو من خلال تقديم شيء معيَّن ملفت، أو بأي طريقة يراها وسيلةً للوصول إلى ذلك المنصب، بل في بعض البلدان- مثلاً- قد تكون مسألة التعلم والتخرج بشهادة معينة، أو البروز في عمل معيَّن، عمل سياسي معيَّن… أو أي وسيلة، الوسائل الكثيرة التي قد يرى فيها البعض أنها وسيلة يصل من خلالها إلى منصب معيَّن، بل البعض قد يكون سبيله للوصول لذلك من اللحظة الأولى ارتكاب مظالم، وجرائم… وغير ذلك؛ بُغية الوصول إلى منصب معين. لماذا؟ للأهمية التي يراها الكثير من الناس في ذلك.
والأهمية بالنسبة لهذا الموضوع تتنوع لدى الناس:
بدايةً لدى أكثر الناس، يرى أن الموقع (موقع المسؤولية) والمنصب يعطيه أهميةً شخصية لدى نفسه أولاً:
يعني: يشعر أنه لو وصل إلى ذلك المنصب، أو إذا وصل إلى منصب معيَّن، يُحِسُّ في نفسه بأنه أصبح شخصاً مهماً، ويرى لنفسه أهميةً عند نفسه، كان يرى نفسه ما قبل ذلك في مستوى هابط ونازل، فرأى نفسه لمَّا وصل إلى ذلك المنصب أنه أصبح شخصاً مهماً، تختلف هذه المسألة باختلاف الطموحات، يعني: البعض من الناس ولو كان في أبسط منصب، لشعر في نفسه بالراحة الكبيرة، ومشاعر الاعتزاز، والفخر، والرضا، وشعر بالأهمية الكبيرة لنفسه… إلى غير ذلك، ويظهر ذلك في سلوك الكثير من الناس، في أسلوبهم في التعامل مع الآخرين، أصبح يتعامل بدافع هذا الشعور الذي أصبح يحمله: أنه قد أصبح شخصاً مهماً، وأصبح كبيراً، وله أهمية، وله موقع أكبر على الآخرين، فيغيب التواضع من أسلوبه في التعامل مع الآخرين، يظهر التطاول، التعالي، التكبر، يحمل في نفسه الغرور، تظهر سلبيات كثيرة نتيجةً لهذا الشعور، هذا أول ما يواجه البعض، يعني: لدى نفسه.
ثم شخصاً مهماً لدى الآخرين:
لدى أصدقائه مثلاً، تأتيه منهم التهاني والتبريكات، والمدائح، والإشادة، ومختلف التعبيرات التي تدل على هذا المعنى: على أهميته في ذلك الموقع، وفي موقع تلك المسؤولية.
وأحياناً تكون لهذه النظرة العامة لدى الناس، لدى المجتمع، يكون لها تأثير أيضاً على الإنسان في نفسه، أنه عندما يشعر بأنه سيصبح له أهمية لدى الناس، اعتبار لديهم، تتغير طريقة تعاملهم معه، لمَّا وصل إلى ذلك المنصب، يتعاملون معه بالمزيد من الاحترام، والتقدير، والمهابة… وغير ذلك. بدلاً من أن تكون حالة القيم الإسلامية هي السائدة أصلاً في التعامل ما بين الناس مع بعضهم البعض، ولا يشترط أن يكون الإنسان رئيساً، أو وزيراً، أو ملكاً، أو أن يكون مديراً، أو وزيراً، أو يحمل مسؤولية معيَّنة، أو في موقع معيَّن ومنصب معيَّن، حتى يقضى بالاحترام بين شعبه، بين أمته، بين الناس، بل أن تسود القيم التي هي تلقائياً تجعل الإنسان يتعامل مع أخيه المسلم باحترام وتقدير، وللقيم الأخرى أيضاً: القيمة الإيمانية والأخلاقية، والقيم التي لها أهمية في ميزان الحق، صفات الكمال التي لها قيمة في ميزان الحق، واعتبار أن تكون هي ذات أهمية لدى المجتمع، مع أنها أهمية عند البعض من الناس الذين لا يزالون على فطرتهم.
هذا من العوامل التي تجعل البعض من الناس يعشق المنصب؛ لأنه ينظر هذه النظرة، وله في نفسه هذه القيمة، ويرى هذه القيمة يحملها الناس في نظرتهم وتعاملهم مع من يكون في منصب.
أيضاً النفوذ:
عندما يكون الإنسان في منصب معيَّن، له صلاحيات معيَّنة، تأثير معيَّن، وتتفاوت المسألة بمستوى المناصب يعني، الصلاحيات المرتبطة بها، والإمكانات في النفوذ المتعلقة بها.
البعض من الناس أيضاً يرى في المنصب أن له أيضاً هذه الأهمية، مع القيمة الاعتبارية، أنه موقع للنفوذ، يستطيع من خلاله أن يمارس بعض الأمور، أن يحقق بعض الأهداف، أن يتصرف بعض التصرفات، في إطار احتمائه- مثلاً- بالجهة التي فيها هذا المنصب: وزارة، ودولة، وحكومة، أو جهة ذات مسؤولية معينة معتبرة، وقد يستغل نفوذه في أشياء متعددة: للحماية، والمنعة، والاعتزاز، في مقابل تصرفات يفعلها، أو أعمال، أو تسلط… أو غير ذلك، تحقق أهداف شخصية، أو أهداف فئوية، أو أهداف حزبية، بحسب انتمائه واهتماماته وأهدافه، قد ترى فيها وسيلةً تساعده على التسلط، على تصفية حسابات معينة، أحقاد في نفسه، أغراض معينة ينفذها، مآرب، مصالح شخصية… إلى غير ذلك.
والبعض أيضاً المطامع المادية:
البعض قد يكون هدفه الأساس هو المطامع المادية، يرى أن المنصب موقع يساعده- من خلال الاستغلال السيء له، والنفوذ فيه- إلى تحصيل مكاسب مادية، بوسائل غير مشروعة، بوسائل غير مشروعة، وأنه سيحمي نفسه وسيتمكن من الابتزاز المالي، الابتزاز بأساليب متنوعة، الحصول على مصالح معينة، الخيانة في الحق العام، الفساد المالي… أشياء كثيرة ووسائل كثيرة قد يجعل منها وسيلةً للحصول على مكاسب مادية، ومصالح مادية.
وهذا يحصل كثيراً، يعني: في تاريخ المسلمين، في الدول والممالك التي تعاقبت في ملكها، وفي نفوذها، وفي سيطرتها على العالم الإسلامي، كان هذا حاصلاً بشكلٍ كبير: الاستغلال للمال العام من جهة، في إطار المصالح الشخصية، والأطماع الشخصية؛ والابتزاز، والنهب، والظلم، والاعتساف، وأخذ أموال الناس بغير حق؛ ففساد واستغلال شخصي محرم للمال العام من جهة، ثم لا يكفيهم ذلك، لا يكفيهم ما يأخذونه من المال العام، فيذهبون إلى الأموال الشخصية للناس، ويبتزونهم فيها بأشكال متنوعة ومتعددة، ولا يزال حاصلاً في العالم الإسلامي في معظم البلدان.
البعض قد يجمع كل الأسباب:
يعني: لديه أهمية وعشق المنصب، بالنظر إلى القيمة المعنوية والاعتبارية، والأهمية في نفسه وفي نفوس الناس، وأنه بذلك سيرى نفسه شخصاً مهماً؛ لأنه لا يمتلك مؤهلات أخرى ذات قيمة كمالية، من صفات الكمال الإنساني، والأخلاقي، والإيماني، فيرى أنه سيعوض نفسه بهذا الجانب، أو أنه لا يرى في تلك الأشياء قيمة أصلاً، يرى كل القيمة في المنصب، ومع ذلك يحسب حساب النفوذ والتسلط، ويحسب حساب المطامع المادية؛ فلديه مجموع هذه الدوافع بكلها.
البعض من الناس قد يكون هدفه مادياً، ولكن بمستوى محدود:
يعني: يريد أن يؤمن وضعه المعيشي بما يحصل عليه- مثلاً- من راتب، وقد تكون نيته أن يلتزم النزاهة، وألَّا يتجاوز الحق فيما سيحصل عليه، ليسد حاجته المعيشية، وليوفر متطلبات حياته الضرورية، من خلال ما يحصل عليه- مثلاً- من مرتب، وحوافز… وغير ذلك، مما يأتي بشكل طبيعي وصحيح، أو في إطار قانوني مثلاً.
البعض من الناس لديه أيضاً هواية الأمر والنهي:
هواية كبيرة لديه، حتى لو كان سيتقشف، أو سيلتزم النزاهة فيما تعلق بالجانب المالي، لكن لديه هواية كبيرة وعشق أن يكون آمراً ناهياً، هذه بالنسبة له فوق كل لذة، فوق كل رغبة، فوق كل طموح، يرغب أن يكون في موقع يأمر فيه وينهى، هذا يعود أيضاً إلى الشعور بالقيمة الاعتبارية لموقع المسؤولية.
البعض من الناس لديه أجندة، ويرى في مسألة المنصب وسيلةً لتنفيذها:
يعني: قد يكون لديه أهداف باطلة، أهداف معينة، ومشاريع معينة، وأفكار معينة، ويريد أن ينفِّذها وأن يفرضها بواسطة المنصب، والمشكلة هي عندما تكون تلك الأجندة باطلة، وهو يتعصب لها إمَّا بدافع فئوي، أو حزبي، أو لغير ذلك من الأسباب، وهي باطلة، ليست حقاً، فيسعى إلى أن يُسَخِّر المنصب في النفوذ والإمكانات لخدمة باطلٍ يفرضه على الناس، ويحميه ليكون سائداً في واقع الحياة.
كل هذه الاعتبارات تُشكِّل خطورةً، أو سلبيةً في الحد الأدنى، يعني: فيما يتعلق- مثلاً- بمن يرى في المنصب وسيلة لسد حاجته المعيشية، هذا وإن لم يكن- مثلاً- بهدفٍ سيء، لكنه لا يصح أن يكون هدفاً، إذا تحوَّل هو إلى هدف، له سلبياته يعني، وهناك مخاطر مترتبة على تلك الاعتبارات، وتلك النظرة للمنصب ولمواقع المسؤولية، من ينظر إليها بهذا الاعتبار، من يعشق المنصب بهذا الاعتبار، لذلك تأثيرات خطيرة جداً في الواقع، منها: المظالم، والمفاسد، والاستغلال السيء للسلطة، وخدمة الباطل، وسيطرة الباطل، وممارسة الطغيان.
وعند استقراء التاريخ في الماضي والحاضر، نجد أن أكبر المظالم، وأعظم المفاسد، أتت إلى واقع الناس في هذا السياق: من عشاق المناصب، عشاق المناصب هم الأكثر ظلماً، الأكثر فساداً، الأكثر طغياناً، الأعظم شراً في واقع الناس، وما يحصل في سبيل الوصول إلى المنصب، وما يحصل ما بعد الوصول إلى المنصب، من مظالم، وطغيان، ومفاسد.
فعلى سبيل المثال: في الدولة الأموية، معظم أمرائها وملوكها، الحالة النادرة جداً فيهم التي تختلف شيئاً ما، لكن معظمهم نجد الأمور الرهيبة جداً في ظلمهم، وإجرامهم، وطغيانهم، كذلك في الدولة العباسية… في الدول الأخرى، كذلك في عصرنا الحاضر ما نجده من كثير من ملوك الجور، من زعماء الضلال والظلم والطغيان، وما نجده من أعوانهم في مستويات المسؤولية ومواقع المسؤولية المختلفة، هذا شيءٌ واضح يعني.
ولربما مما يُقدِّم لنا صورة مختصرة عن المخاطر الرهيبة جداً الناتجة عن ذلك، ما تذكره كتب التاريخ عن أحد ملوك بن أُميَّة، عندما أتت البشارة له بأنه قد حان دوره في الوصول إلى المنصب، سيتحول هو إلى ملك، أصبح دوره، مات الذي قبله وهو ولي عهد، فأتته البشارة، وعندما أتته البشارة كان المصحف (القرآن الكريم) بين يديه، حينها قال مخاطباً للقرآن الكريم وأغلقه، أغلق المصحف، وقال: [هذا آخر العهد بك]، خلاص يعني وداعاً للقرآن وداعاً نهائياً، وتركه وذهب معهم، كيف كانت ممارساته فيما بعد ذلك؟ كيف كان ظلمه؟ كيف كان طغيانه؟ كيف كان إجرامه؟ من تلك النوعية الذين لا يهتدون بهديٍ، ولا يستنون بسنة؛ فلا هدى الله هو دليلهم ونورهم، ولا طريقة رسول الله ومنهجيته في التَّمسُّك بهدى الله وتعليماته هي سبيلهم ودليلهم.
يقولون أيضاً عن أحد ملوك بني العباس (هارون العباسي)، أنه قال ذات مرة، وهو في مسجد رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، البعض ينصحه ويُذَكِّره حول ما يرتكبه من ظلم وطغيان وإجرام، فكان جوابه وهو في مسجد رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، أمام قبر رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، كان جوابه لذلك الناصح أن قال: [الملك عقيم، أما والله لو قام صاحب هذا القبر- وأشار الى قبر رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”- ونازعنا هذا الامر، لضربنا خيشومه بالسيف]، تجد هذه الوقاحة العجيبة، وهذا التعبير عن نهاية الطغيان والاجرام.
وفعلاً أكثر سلاطين الجور، وزعماء الضلال والطغيان، لو قام رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” من قبره في عصر أيٍّ منهم، ورأوا أنه يشكل تهديداً على مناصبهم؛ لما ترددوا في أن يقاتلوه، أن يقاتلوا رسول الله، موقفهم من دين الله، من رسالة الله، من عباد الله، هو موقف في هذا المستوى من الطغيان والاجرام، موقف لم يحترم حتى رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، بل بهذه الوقاحة [لضربنا خيشومه بالسيف].
حالة العشق للمناصب هي التي تدفع الكثير من الناس إلى الممارسات الظالمة، إلى المفاسد الكبيرة، إلى الاجرام، إلى الطغيان، وتدفع الكثير من الناس إلى أن يقف في صف الباطل؛ لأنه يريد أن يكون له منصب معين، ويريد أن يضمن هذا المنصب بالوقوف في صف الباطل، ومحاربة الحق، وأيضاً يصل الحال ببعضهم إلى أن يكون في صف أسوأ أهل الباطل، في صف الكافرين، أن يوالي الكافرين ضد أمته، وأن يقف في صف أعداء الأمة الإسلامية بكلها، لا يتردد في ذلك، همه كيف يحمي منصبه، وأن يبقى في ذلك المنصب، ثم قد يخسر.
فما أكثر المظالم والمفاسد؛ لأن موقع المسؤولية، والمناصب ذات الأهمية في حياة الناس، مناصب في الدولة، عندما تكون مواقع للتسلط والظلم، وتسخير إمكانات الأمة والنفوذ في نشر باطل، في نشر ظلال، في الظلم، في الممارسات السيئة؛ فالشر منه كبير، يختلف يعني عن مستوى التأثير من موقعٍ عادي، أنت كمواطن عادي مثلاً، أو شخص لست في موقع إمكانات دولة، وفي ظهري دولة، أنت في مستوى إمكانات بسيطة، أو واقع بسيط، واقع اجتماعي محدود، واقع تأثير محدود، إمكانات محدودة، لا يكون ظلمك وشرك وفسادك بذلك المستوى الذي هو من موقع مسؤولية، وعندما تكون الحالة حالة توجه عام، دولة من رأسها إلى أبسط موقع فيها، لديها توجه قائم على الظلم، والباطل، والطغيان، والإجرام، وحصل هذا كثيراً في تاريخ الأمة، وتكون الحالة النادرة جداً أن يكون هناك البعض، القلة القليلة من الناس، الذي قد لا يكون لديه ذلك التوجه السيء الظالم، ولا تلك الممارسات، تكون الكارثة كبيرة جداً. فنجد المخاطر المرتبطة بهذه المسألة.
أيضاً البعض من الناس- مثلاً- قد يرتبط في رضائه وسخطه، وتأييده للحق، بهذا الهدف، يعني: [أنا سأقف مع الحق، وسأتجه لنصرة الحق، لكن بشرط أن يكون لي منصب، إذا لم يكن لي منصب فسأخذل الحق]، وفي أقل الأحوال- مثلاً- لا يكتفي بخذلان الحق، بل يكون لديه انطباع سيء؛ لأنه يعتبر لنفسه حقاً في أن يكون له منصب مهم جداً؛ لإرضاء نفسه، وإرضاء أهدافه الشخصية ورغباته الشخصية، تلك الاعتبارات الشخصية.
هذه المسألة أيضاً لها تأثير سيء على الإنسان، يعني: لم يعد ارتباطه بالحق ارتباطاً إيمانياً، من منطلقٍ إيماني، فهو يقف الموقف الحق من أجل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، طاعةً لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يبتغي مرضاة الله “جَلَّ شَأنُه”، هدفه هدف مُقدَّس، صادقٌ مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ما يأمله ثمناً لموقفه هو شيء أعظم من مسألة منصب معيَّن، أو مكافأة معيَّنة من الناس، أو سُمعة لدى الناس، أو أهمية لدى الناس، هو يتجه في عمله بإخلاصٍ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويعي قيمة هذا الإخلاص، في أن يكون عمله مقبولاً عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن يكون لموقفه مع الحق قيمة إيمانية وأخلاقية، بحيث يرضى عنه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويحظى بما وعد الله به أولياءه المؤمنين، حتى بالعزة، العزة الحقيقية، العزة التي هي مرتبطة بالإيمان، والفوز العظيم، الفوز الحقيقي للإنسان، الكثير من الناس يعاني أيضاً من هذه المشكلة، مع أن البعض قد ينطلق مع الحق ابتداءً بنية حسنة، وصادقة، وخالصة. ولكن الإخلاص بنفسه يمكن أن يتغير في مرحلة معينة، عندما يحصل هناك تمكين، ويرى الإنسان المواقع (مواقع المسؤولية) متاحة، أو يرى الآخرين أيضاً لديهم مناصب معينة، فتتحرك في نفسه المطامع الشخصية، والرغبات الشخصية لذلك؛ فيصل إلى هذا المستوى من عشقه للمنصب، بحيث يربط موقفه مع الحق بالمنصب، فإن كان سيحصل على ذلك المنصب؛ فهو مع الحق، وإن فاته ذلك المنصب؛ كفر بالحق جملةً وتفصيلاً، أو خذل الحق، وغيَّر اتجاهه وتفاعله مع الحق. هي حالة خطيرة، هي تعود إلى عشق المنصب، وهي حالة سلبية جداً.
فحالة الإنسان عندما يرتبط في حالة الرضا، والسخط، والموقف، بالمنصب؛ أصبحت حالة عشق للمنصب، وعلى الإنسان أن يراجع نفسه، وأن يحاول أن يعمل للخلاص من تلك الحالة الخطيرة على نفسه والسلبية، التي تصبح عائقاً بينه وبين مرضات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
النظرة الصحيحة هي التي يعلمنا أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” في هذا الدرس، عندما قال هذه الكلمة المهمة العظيمة: ((وَاللهِ لَهِيَ أَحبُّ إِليَّ مِنْ إِمْرَتِكُم، إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقًّا، أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً))، في التربية الإيمانية يجب أن يحرص الإنسان المؤمن أن تكون نظرته إلى المنصب هذه النظرة، فلا يسوى عنده قيمة نعله، إذا كان حتى نعلاً ليس غالي الثمن- لأن البعض من الناس حتى النعل عنده يحتاج مما هو مرتفع الثمن جداً- من أبسط الأحذية، التي قد لا يرى لها الناس قيمة، ألَّا يكون لديها أي قيمة، يحاول الإنسان في تربيته الإيمانية، في واقعه النفسي، أن يكون منشداً إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” إلى الغايات الكبرى، التي رسمها الله لعباده المؤمنين، إلى الأهداف المقدسة العظيمة، ويعمل على تزكية النفس، من خلال انشداده إلى الله، وأخذه بتعليمات الله، واهتدائه بهدى الله الذي يزكي النفوس، وهو شفاءٌ لما في الصدور؛ فتكون مسألة المناصب لا قيمة لها عنده، ولا حتى بقيمة مفردة نعل، يعني: واحد من نعليه، من نعلين لا قيمة له، أن يكون بهذا المستوى، أن يتخلص من داء عشق المناصب.
ثم تكون الأهمية- وبشكلٍ حصري- لمواقع المسؤولية لمسألة واحدة، هي: إحقاق الحق، ودفع الباطل، فلا نريد من هذه المواقع المهمة للمسؤولية إلَّا هذا الهدف: إحقاق الحق، وإقامة الحق في واقع الحياة، الحق بالنسبة للمؤمنين هو الهدف العملي، الذي يرتبطون به في مسيرة حياتهم، فهم يعملون لإقامة الحق في واقع الحياة، والحق مصدره الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والحق عنوانٌ عظيم وأساس، أساسٌ يتحرك المؤمنون وهم مرتبطون به في هذه الحياة. هو الأساس الذي يضبط المسار في أداء المسؤولية بشكلٍ صحيح.
العناوين الأخرى يجب أن تكون مضبوطةً بضابط الحق، مثلاً: من أشهر العناوين التي تعتمد في هذا العصر، وتعتمد بشكل صريح وواضح كعنوان، هي: المصلحة، عنوان المصلحة، هذا العنوان يغلب في الساحة الإسلامية، وليس فقط في الأوساط الغربية والدول الكافرة، بل في أوساط المسلمين (عنوان المصلحة)، [نسعى للمصلحة، نعتمد السياسات التي تحقق المصلحة والمصالح، مصلحة بلدي، أريد أن أسعى لما فيه مصلحة بلدي]، هذا العنوان إذا لم يربط بالحق، ويكون فرعاً عن الارتباط بالحق، وناتجاً للتمسك بالحق، فهو في أكثر الأوقات، وأكثر الأحيان، وفي أكثر الحالات، هو عنوان غير واقعي؛ لأنه لا مصلحة فيما خالف الحق أطلاقاً، نهائياً، لا مصلحة فيما يخالف الحق.
الحق مصدره الله، الحق هو فيما هدانا الله إليه، في تعليماته، ونهجه، وأمره، وشرعه، الحق هناك؛ لأن الله رسم لنا ما فيه الحق، ما هو الشيء الثابت، الصحيح، المطابق للحكمة، المطابق للخير، الذي لا ظلم فيه، ولا سوء فيه، ولا شر فيه، ولا جهالة فيه، حقٌّ بكل ما تعنيه الكلمة، هناك الحق، {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}- كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”- {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[البقرة: الآية147]، وَيُبيِّن الله في القرآن الكريم أهمية هذه المسألة في اتِّباع المؤمنين للحق، وفي ما يفصل ما بينهم وبين غيرهم، يقول الله “جَلَّ شَأنُهُ”: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}[محمد: الآية3]، يعني: هذا هو السبب حتى في أن يحظى المؤمنون بنصر الله ومعونته وتأييده، وفي أن يغضب الله على الكافرين وأن يسخط عليهم، يقول الله “جَلَّ شَأنُه”: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}[يونس: الآية108].
الحق هو الأساس الذي ينبغي أن نسعى لإقامته، ليكون سائداً في هذه الحياة، ليكون معمولاً به، ليكون هو السائد في موقع إدارة شؤون الأمة، الحق في المجال السياسي، الحق في المجال الاقتصادي، الحق في الجانب الاجتماعي… الحق في كل المجالات، كيف يكون هو المعتمد الذي يتمسك به الناس، يلتزم به الناس، يحتكم إليه الناس، يعود إليه الناس، يكون هو ما يُعمل به في واقع الحياة (الحق)، وفعلاً لابدَّ للحق إذا أردناه أن يكون قائماً، لابدَّ له أن يكون أيضاً في مواقع المسؤولية، إذا أزيح من موقع المسؤولية، وتحوَّل إلى حالة وعظية إرشادية، بعيداً عن موقع إدارة شؤون الناس، عن ولاية الأمر، أصبح مجرد حالة وعظية إرشادية في المساجد، وفي زوايا المدارس الدينية؛ يكون حضوره في واقع الحياة حضوراً ضعيفاً، محارباً، مقصياً، غير فاعل، والذي يحل محله ما هو؟ الباطل.
الباطل يتفرع عنه كل المنكرات، كل الشر، كل الفساد، كل المظالم، كل الجرائم، الباطل يشكِّل خطورة كبيرة على الناس، وإذا كان موقع إدارة شؤون الناس- المسؤوليات في المسؤولية، المناصب بحسب مستوياتها- موقعاً لخدمة الباطل، يستند إلى إمكانات دولة، إلى سلطة دولة، إلى نفوذ دولة؛ فإنه حينئذٍ ينتشر في واقع الناس، ويتغلب على الناس في حياتهم؛ فما أكثر الظلم حينئذٍ، وما أكثر الفساد، وما أكثر الضلال، وحينئذٍ- فعلاً- يتضاءل حضور الحق في حياة الناس، في مقام العمل به، والالتزام به، وتضيع حقوقهم، الحقوق هي فرعٌ عن الحق، حقوق الناس المشروعة، التي قدَّمها الله لهم، هي تضيع عندما لا يُعمل بالحق، الحق في كل المجالات، والقرارات، والسياسات، هو بأن تكون وفق هدى الله وتعليماته ونوره، الذي هو الصواب، والذي هو الواقع، والذي هو الصحيح، والذي فيه الخير للناس، والذي يحفظ للناس حقوقهم ومصالحهم الحقيقية، وهذا ما يجب أن تكون نظرة الإنسان إلى المناصب، تكون فقط وسيلةً لإقامة الحق ودفع الباطل، دفع الباطل عن الناس، دفع الباطل حتى لا يكون هو المتغلب في واقع الحياة، والمسيطر في واقع الحياة، بما يتفرع عنه من شر، ومنكرات، ومظالم، ومفاسد، والعياذ بالله.
نكتفي بهذا المقدار.
وَنَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛