Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

هذا الوصف للبعوضة… هل يقع في باب الأدب؟

حسن داود*

لم يزل عالقا في ذهني، ملحّا عليّ، ذاك المقطع الذي يصف البعوضة. كنت قد قرأته في رواية طارق الطيّب «لهو الإله الصغير» مُثبَتا كلّه، ما يشير إلى أن الكاتب لم يقلّ إعجابا به عنّي. وهو لم يعلّق بشيء على ذاك المقطع. اكتفي بالقول إنه وجد الكتاب الذي احتواه في مكتبة عتيقة، وإذ راح يقلّب الصفحات كيفما اتّفق، توقّف عند صفحة تصف البعوض. «وبصعوبة، قرأتُ بضعة أسطر عجيبة» كما يقول.
عجيبة هذه هي الكلمة المناسبة، علما أن النصّ، ولنسمّه كذلك، يصف البعوض مثلما هو تماما، دون أيّ تدخلّ لمخيّلة الواصف في ذلك. «هو حيوان في غاية الصغر» يقول النصّ، ثم يزيد على ذلك، مستكملا السطر، «وهو على صورة الفيل» مطلقا هكذا عجيبته الأولى، وهي عجيبة تعود لخالق الحيوانين، المتساويين في تكوينهما، رغم الفارق الهائل في حجم كلّ منهما مقايسة مع الآخر. قوام هذا التساوي هو أن في «كل عضو خلق للفيل فللبعوض مثله» بل إن البعوض يفوق الفيل «في زيادة جناحين».
ومع ذلك دعنا نترك الفيل جانبا، ولنبق في البعوض الذي «بالشِدّة يدركه الطرف «(النظر) لصغره. ولنفكّر برأسه وكم يكون من جسمه، الذي فيه القوة الباصرة والسامعة، ثم إلى دماغه وكم يكون حجمه من حجم رأسه وفيه، مع ذلك، «القوى الباطنة الخمس». كما فيه الخيال لأن البعوضة «إذا وقعت على الحيوان تغمس خرطومها، وإذا وقعت على الحائط لا تفعل ذلك» وفيها الوهم «لأنها تفرّق بين من يقصدها فتهرب ومن لا يقصدها فتبقى». كما أن «فيها الحافظة لأنها إذا اجتذبت الدم فإنها تهرب في الحال لعلمها أنها أوجعت فتأتي صدمة المتألّم». وفيها المفكّرة أيضا «لأنها إذا أحست بحركة يد الإنسان تهرب لعلمها أنها مهلكة، وإذا سكن يده عادت إلى مكانها لعلمها أن المنافي ذهب وأن محلّ الغذاء خلا» لكن أكثر ما يبقى من ذلك الوصف الدقيق، الملازم لدقّة حجم البعوضة، هو ذاك المتعلّق بخرطومها «المجوّف حتى يجري فيه الدم الرقيق» ذاك أن المخيّلة، أعني مخيّلة قارئ النص، تميل إلى تصوّر ذاك الخرطوم واسع التجويف، كي يتسع لعملية امتصاص الدم ونقله من ثمّ إلى حيث ينبغي أن يصل في الجسم. دائما كان يعاندني تصوّري لحجم هذا الخرطوم. أحاول أن أتخيّله صغيرا، على قدر ما هو صغير، فينتفخ ليصير محتملا القيام بوظيفته تلك، أو على الأقل أن تصير عملية جريان الدم فيه مرئيّةَ بالعين المجرّدة.
وأتساءل لماذا استحوذ وصف الخرطوم على ما عداه من أوصاف الأعضاء الأخرى. أجيب بأنه وحده الموصوف كعضو من أعضاء البعوضة وليس كحاسة من حواسّها. وحده يستدعي الرؤية ويستحثّها، لهذا نجده يوقعنا في ذاك الالتباس القائم على تضخيم ما هو صغير وعدم القدرة على تصوّره في حجمه.
ما يستدعيه هذا النص أيضا يأتي من التساؤل، إن كان نصا وصفيّا عاديا ينتسب للعلم بالحيوان؟ أم هو نصّ أدبي إبداعي، رغم أنه لم يذهب إلى ما يتعدّى الوصف العادي، تلك النملة التي راح يراقبها نابوليون بونابرت مقارنا بين صغر حجهما وإصرارها السيزيفي على الرجوع إلى أسفل الشجرة بعد أن كانت قد بلغت وسطها، فتعود إلى القيام برحلتها من جديد، حاملة تلك الحبة إلى أعلى. هنا، في وصف البعوضة، ترك لنا الكاتب أن نستنتج من النصّ ما يميل عقلنا إليه، أن نقول مثلا إن هذا من عجائب الخلق، وإن نكن غير مقتنعين إن كانت هذه إجابة كافية.
كان طارق الطيّب قد ذكر اسم الكتاب (نُخَب المِلَح) الذي قرأ فيه هذا النصّ، اعتمادا على «غوغل» عرفنا أن الكتاب المذكور يشتمل على حكايات أدبية ونوادر حكمية كان من بين أغراضها تدريس اللغة العربية، أما في ما يتعلّق بسنة صدوره فهناك تواريخ عدة لكنها تتجمع حول السنة 1900، وكذلك هناك اختلاف حول الاسم الثاني الذي عاون يوحنا بلو جامع النصوص، فهو حينا إبراهيم اليازجي وحينا آخر الأب أغسطينوس رودة، لكن ما ينقص هو عن صاحب النصّ، أو مؤلّفه، مَن مؤلّفه؟ لم أتمكّن أبدا من الحصول على على ذلك بسبب مشكلتنا مع غوغل.

كاتب لبناني

Share

التصنيفات: ثقافــة

Share