وصال العلاق*
كان يمر في شارعنا كل يوم، أشعث متسخاً بدشداشته الرثة، ويرتدي سترة فضفاضة تكاد تبتلعه. لم يغير هندامه مع اختلاف الفصول: دشداشة مهترئة وسترة كبيرة، لا بد أنها تعود لشخص آخر؛ قد يكون أحد أفراد عائلته، أو شخصاً غريباً أشفق عليه وأراد أن يقيه برد الشتاء الذي ينخر العظام بلا رحمة.
كان يمشي حافي القدمين، وابتسامته الخاوية لا تفارق شفتيه أبداً! لم أسمعه يتفوه بكلمةٍ قط، وكأنه يخبئ كل أسرار الكون بين شفتيه المطبقتين، يمر كل يوم، مطراً كان أم صحواً.. يمضي إلى آخر الشارع ويواصل سيره إلى المزرعة الصغيرة عند منعطف الطريق المعبد، ويختفي بين الشجيرات.. لا أدري إلى أين.
في العطلة الصيفية، اعتدت الخروج وقت الغروب إلى حديقة بيتنا والنظر إلى الشارع. كان سياجها منخفضاً، تتخلله الأعمدة الحديدية التي تكتظ بالنباتات المتسلقة وأزهار الياسمين. كانت الحديقة ملآى بالورود والخضرة الزاهية، غير أن جمالها لم يكن نقياً أو صافيا تماماً. فكثيراً ما اتخذت من سياجها درعاً يحول بيني وبين رؤيتي للصِبْية وهـم يسخرون من هذا الإنسان ويتطاولون عليه، ومن رؤيتهم، في أحيان أخرى، وهم ينهالون عليه ضرباً بالحصى أو أغطية الزجاجات الفارغة. أتذكر صراخه غضباً، والدم يسيل من جبهته، كان يصدر أصواتاً مجوفة لا تتخللها الأحرف أو الالفاظ المفهومة. كان يصرخ في العراء، دون أن يستغيث بشخصٍ ما، ليوقف إساءتهم إليه، لكنه يرجع في اليوم التالي وابتسامته الواسعة تعلو شفتيه وكأن شيئاً لم يكن.
كنا نستمع إلى الكثير من الشائعات عنه، هناك من يقول إنه أبكم، لكنه مدرك لكل ما يحدث حوله.. ويقول البعض الآخر بأنه ولد هكذا، يعاني من تخلف عقلي ولم يكن بحالة ذهنية سليمة على الإطلاق، وهناك من يقول بأنه كان شاباً وسيماً وقد وقع في حب فتاة لكن أباها رفض تزويجها له، وقد فقد صوابه ليلة زفافها لرجل آخر. وثمة من يقول بأنه كان عائداً من المعسكر ذات ليلة، وفوجئ بوفاة والدته فجن جنونه حينها. لقد سمعنا الكثير من القصص عنه، لكنها، كما قلت، شائعات.
كنت أبتسم له عندما يمر، غير أن ابتسامتي كانت تثير فيَّ الاشمئزاز، إذ أدرك تماما بأني كنت أخشى علوان حدّ الهلع.. لا يسعني خداع أحد بهذه الابتسامة المتصنعة! هل كنت منافقة ككل الذين يحيطون بي؟ فأنا لم أكن ابتسم شفقةً أو تعاطفاً، بل خوفاً من هذا المخلوق الغريب الذي لم أعرف سبباً أو تفسيراً لوضعه حتى الآن.
اقترب ذات مرة من نافذة مطبخنا المفتوحة، وأدخل وجهه منها مبتسماً لأمي التي لم تنتبه في بادئ الأمر، لكنها أخذت تصرخ وتستنجد بأبي حين رأت وجهاً يحدق بها دون حراك! ما أزال أذكر كم فاجأته ردة فعلها، وكيف تحولت ابتسامته البريئة إلى خوف كبير، فأخذ يجري في الشارع وكأنه يحاول أن يمحو ما حدث من ذاكرته قبل ذاكرتها. لم نره لعدة أيام بعد ذلك، هـل كان خجلاً من رؤيتها بعـد هذه الحادثة المحرجة؟ لا أدري. بعد أيام قليلة، أخذت أمريكا تقصف بغداد بكل ما أوتيت من لؤم، فتفرق الناس، وسلك كل واحد منهم درباً غير الذي خطط له سابقاً.
لم أفكر بعلوان، أو بالقصص التي تروى عنه بعد ذلك لسنوات عديدة، أما الآن، فهو يخطر ببالي طوال الوقت. كلما نظرت إلى ولدي وتلك الابتسامة التي تعلو شفتيه. كلما حاولت أن أكتشف الأسرار التي يبقيها طي الكتمان، وكلما اختبر تلك النظرة التي تخبرني بأنه يعرف أكثر من الجميع، لكنه سيحتفظ بصمته في الوقت الحالي. هل كان علوان يعاني، مثل ولدي، من مرض التوحد يا ترى؟ أو من مرض آخر لم يشخص بالشكل الصحيح؟ هل كان علاجه ممكناً؟ أين هو الآن؟ ماذا حل به بعد الحرب؟ لا أدري.. لكنه أصبح جزءاً من حياتي دون أن أدرك. عندما أقلم أظافر ولدي أو أحلق ذقنه وأمشط شعره، أخبره بهدوء: لا أريدك أن ترتدي سترة تفوقك حجماً، ولا أن تمشي حافي القدمين، ولا أريد أن يسخر منك الآخرون، فأنت هنا حيث يجب أن تكون، هذا ما أراده الله لك ولي! وأتساءل: لماذا لم اكترث يوماً لحال علوان؟ لماذا لم أٍصرخ في وجه كل من آذاه أو سخر منه؟
كاتبة ومترجمة عراقية