الوحدة نيوز/ الثلاثون من نوفمبر يوم استثنائي في تاريخ اليمن والوطن العربي عموما، طوى اليمنيون فيه حقبة استعمارية دامت 129 عاماً، مارس الاحتلال البريطاني خلالها كل أشكال الظلم والقهر والنهب والتسلط.
تكمن أهمية عيد الاستقلال في أنه مثل انتصارا معنويا وسياسيا ليس لليمن وحسب، وإنما للدول العربية، كونه جاء بعد نكسة يونيو 1967م، ما أكسبه بعدا قوميا، وجعل منه مناسبة عربية أكثر من كونه مناسبة يمنية خالصة.
يمثل الثلاثون من نوفمبر خلاصة نضالات دامت أكثر من أربع سنوات وامتدادا لثورة الرابع عشر من أكتوبر التي فجرها الثوار الأحرار من جبال ردفان عام 1963م، لتشكل واحدة من أبرز الثورات العربية التي قامت ضد أعتى إمبراطورية استعمارية، لم تكن تغيب عنها الشمس، وأجبرتها على الرحيل من عدن منكسرة وذليلة.
إلا أن ذكرى الاستقلال تحل للعام الثامن وقد عاد الاستعمار بشكله الجديد إلى المحافظات الجنوبية، تحت مسمى التحالف الأمريكي السعودي الإماراتي ليتطابق في تحركاته وأطماعه مع سلفه البريطاني الذي يعد شريكا أساسيا في العدوان على اليمن ويسعى من خلال شراكته تلك إلى تحقيق حلمه بالعودة إلى جنوب الوطن.
وبعد 55 عاما من استقلال البلاد مثل تواجد قوات التحالف منذ العام 2015م، انتكاسة وبداية لحقبة استعمارية جديدة بحكم ما تمارسه دول الاحتلال من تدخلات سافرة تلحق الضرر بمركز وسيادة الدولة اليمنية وتعمل على تغذية التيارات المناطقية والانفصالية في المحافظات الجنوبية تماما كما كانت تدعم بريطانيا المشيخات والسلاطين قبل العام 1967م.
ومثلما سعى الاحتلال البريطاني منذ البداية للسيطرة على الجزر والممرات المائية الاستراتيجية اليمنية، تتسابق دول تحالف العدوان السعودي الإماراتي ومن ورائها قوى دولية على احتلال الجزر اليمنية والسيطرة على نفس الممرات المائية التي تتحكم في خطوط التجارة العالمية.
مخاضات الاستقلال
لم يكن إعلان الاستقلال وجلاء آخر جندي بريطاني من جنوب الوطن، وليد الصدفة أو هبة من الاحتلال الإنجليزي، بل كان نتيجة حتمية لنضالات طويلة وتضحيات جسيمة قدمها الثوار في سبيل نيل الحرية والاستقلال.
وبهذا الصدد يشير المناضل عبد الفتاح إسماعيل في إحدى مذكراته، إلى أن “المعركة المُسلحة من أجل الاستقلال الوطني انطلقت من الريف في الأساس لتلتحم بنضال الطبقة العاملة والمُثقفين الثوريين وسائر الكادحين في المدينة، الذين كانوا يؤمنون بالنضال المُسلح، وبالموقف السياسي لثورة 14 أكتوبر، حيث نجحت الجبهة القومية عبر توحيدهم، وعبر النضال الطويل والتضحيات، وقوافل الشهداء أن تحقق النصر لثورة 14 أكتوبر في 30 نوفمبر 1967م”.
وفي حديث له عن ذكرى الاستقلال يؤكد المناضل علي عنتر أن “الاستقلال جاء بعد نضال طويل، كانت نتيجته طرد الإنجليز وكنس عملاء الإنجليز، وإسقاط الإمارات والمشيخات، وكان الـ 30 نوفمبر هو يوم توحيد الشعب، وإسقاط العملاء، وإنهاء الانقسام في الشطر الجنوبي من الوطن”.
شكل اندلاع الثورة من ردفان بداية مرحلة الكفاح المسلح، الذي استمر ملتهباً طيلة أربع سنوات كاملة ابتداء من العام 1963 حتى إعلان الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م، على الرغم من العمليات العسكرية والقصف الجوي الذي شنته القوات البريطانية ضد الثوار، واشترك فيها آلاف الجنود، ومختلف أنواع الأسلحة الثقيلة.
ومرورا بتشكيل جبهة تحرير الجنوب اليمني والجبهة القومية، استمر الكفاح المسلح على الرغم من كل محاولات الاحتلال إحداث شرخ في جبهة المقاومة التي واصلت عملياتها ضد مواقع وتجمعات الاحتلال وكبدته الكثير من الخسائر المادية والبشرية، بينما شهدت مدينة عدن إضرابا عن العمل وتظاهرات شعبية واسعة رفضا للاحتلال.
تمكنت الجبهة القومية عقب ذلك من السيطرة على العديد من المشيخات والسلطنات في عدن وحضرموت وغيرها، لتضطر بريطانيا بعد ذلك إلى الإعلان عبر وزير خارجيتها عن استعدادها لمنح الاستقلال لجنوب اليمن بحلول الـ30 من نوفمبر 1967م.
عوامل عديدة ساعدت على تعجيل خروج الاستعمار في نهاية شهر نوفمبر بعد أربع سنوات من الكفاح المسلح المتدرج، وما تخلله من تباينات بين رفاق الكفاح المسلح، ليكون العام 1967 فاتحة خير لتكتل القوى الوطنية بقيادة الجبهة القومية، وخصوصاً بعد مؤتمر حُمر الثالث، وانسلاخ الجبهة القومية عن جبهة التحرير والعمل بشكل مستقل، ما ساعدها على الارتقاء بالعمل الفدائي إلى مستوى المجابهة اليومية مع قوات الاحتلال في عدن، اعتباراً من مطلع 1967م، وإقامة سلطة الجبهة القومية في الأرياف ومحاصرة مدينة عدن وتحريرها نهائياً وانتزاع الاستقلال والحرية في 30 نوفمبر.
ومن أبرز العوامل التي ساعدت أيضا في التعجيل بخروج قوات الاحتلال وقوف الشعب إلى جانب الثورة، وقيام الثوار بتوجيه الضربات القوية للعملاء والأجانب، الذين كانوا يلعبون دوراً كبيراً في مراقبة الفدائيين، ورصد تحركاتهم، ورفعها إلى الاستخبارات البريطانية، إلى جانب الأخلاق التي كان يتحلى بها الثوار في علاقاتهم وتعاملهم مع المواطنين، والعلاقة المتينة بين رفاق النضال.
تطور مفهوم التحرر الوطني
وضعت الجبهة القومية التي قادت ثورة 14 أكتوبر، في طليعة أهدافها التحرر من الاستعمار وإزالة السلطنات وتوحيد أراضي وجزر الشطر الجنوبي من اليمن، وضمان الاستقلال وصون السيادة الوطنية، وربط قضايا التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي من الاستغلال، وقطع التبعية الاقتصادية بالرأسمالية العالمية، وتجاوز واقع التخلف الذي كرسه الاستعمار، وبناء دولة عادلة، والتضامن مع نضال الشعوب ضد الاستعمار والصهيونية العالمية، والانتقال من مواجهة الاستعمار في الوطن إلى مواجهته في العالم، باعتبار البلد جزءا من حركة الثورة العالمية.
وقد تجلى هذا الفهم لقضية التحرر الوطني في واقع الحال اليوم، حيث عاد الاستعمار الغربي بأشكال جديدة، من الاستعمار الأمريكي والبريطاني والفرنسي، وتُعد بريطانيا الفاعل الدولي الأول في الأوضاع الراهنة وداعمة رئيسة للتدخل العسكري العدواني في اليمن، وتمارس من خلال ذلك استراتيجياتها الاستعمارية القديمة الجديدة عبر دويلة الإمارات التي تحتل معظم الجزر والسواحل اليمنية في جنوب البلاد وشرقها وغربها مستعينة بميليشيات محلية.
سياسات الاستعمار تتكرر
إن جوهر السياسة الاستعمارية البريطانية التي يجري تطبيقها اليوم من قبل تحالف العدوان، مع استيعاب التطورات تتمثل في تقسيم الجنوب اليمني إلى أقاليم ليتناسب مع التقسيم الاستعماري القديم لجنوب اليمن إلى محميتين شرقية وغربية، وكذا فصل الساحل الغربي عن شمال اليمن الذي يعد أيضاً مشروعاً بريطانيا بامتياز، كما أن تقسيم شمال اليمن إلى دولتين “زيدية” و”شافعية” وإثارة العصبيات الطائفية هو الآخر مشروع بريطاني قديم جديد.
وبالمقارنة مع التحديات التي واجهتها ثورة 14 أكتوبر، يتجلى التطابق مع التحديات التي واجهت ثورة 21 سبتمبر حتى اليوم، ومنها الغزو الأجنبي واستحداث الجبهات العسكرية من قبل القوى المضادة للثورة بالتحالف مع الاستعمار والرجعية الخليجية، وكذلك استهداف الجبهة الداخلية، والعمل على تفجير التناقضات الثانوية في صفوف الشعب، وفرض الحصار والحرب الاقتصادية، واحتلال الإمارات للجزر اليمنية وإخراجها من دائرة السيادة الوطنية، وحتى من دائرة حكم المرتزقة، بل إن المناطق التي حددها ميثاق الجبهة القومية عام 1965م كمناطق محتلة هي اليوم تحت الاحتلال الإماراتي السعودي.
ظل الجانبان السياسي والعسكري السمة الرئيسية للاستعمار البريطاني في جنوب الوطن، حيث كانت عدن قد تحولت قبل ثورة 14 أكتوبر إلى مقر للقيادية الاستعمارية البريطانية في بلدان الجزيرة والخليج العربي والشرق الأوسط، ومحطة ترانزيت لتزويد الأساطيل التجارية الإنجليزية بالوقود، وقاعدة عسكرية تؤمن حماية الطُرقات والممرات البحرية إلى مناطق الهند وشرق أفريقيا.
كما شكلت عدن بعد الحرب العالمية الثانية نقطة ارتكاز ورأس جسر عسكري لحلف الأطلسي للقيام بأعمال عدوانية ضد حركات التحرر الوطنية العربية والأفريقية، وعمل الإنجليز على إنشاء مطارات حربية في جزيرة كمران إلى جانب المطار الرئيسي في خور مكسر، وتمركزت الفرق الحربية البريطانية في مكيراس والضالع وبيحان ولحج وغيرها من المشيخات والسلطنات.
الاستعمار الاقتصادي
عمل الاحتلال البريطاني في جنوب الوطن على إفقار الشعب اليمني واستهداف الاقتصاد الطبيعي للمدن والأرياف، وتحويل المناطق الجنوبية بمدنها وأريافها إلى أسواق مفتوحة لمنتجات الشركات الأجنبية، كما قضت السلع البريطانية على ما كان موجود من الورش والصناعات الحرفية الوطنية، فأصبحت الأقمشة وكل الملبوسات والمفروشات والأدوات المنزلية تستورد من الخارج.
ركز المحتل البريطاني على دعم الإقطاعيات التي شكلت حاجزاً أمام تطور القوى المُنتجة في الريف، كما أقام تحالفاً سياسياً مع السلاطين الإقطاعيين لفرض الهيمنة والسيطرة الاستعمارية على كُل أجزاء البلاد.
ومنذ العام 2015م عادت الأطماع الاقتصادية نفسها إلى الذهنية الاستعمارية البريطانية، ومثلت دافعا لانخراطها في العدوان على اليمن، لتسند مهمة السيطرة على الموانئ والجزء ونهب الثروات النفطية والغازية والسمكية إلى وكلائها في المنطقة (السعودية والإمارات) وتستمر في تعطيل مؤسسات الدولة وتعميق الأزمات الاقتصادية والإنسانية، بعد أن دمر القصف الجوي لطيران تحالف العدوان غالبية البنى التحتية للبلد.
الحكم بالقمع والمرتزقة
وكما يقوم تحالف العدوان اليوم بقمع المواطنين وممارسات الانتهاكات والنهب والسلب والاعتقالات والتعذيب والاستغلال بكل أشكاله عبر استحداث العديد من الكيانات والمليشيات التابعة له، قامت السيطرة البريطانية على أساس قمع الغالبية الشعبية وتقريب حفنة من المرتزقة المنتفعين من الاستعمار.
أعطت قوات الاحتلال البريطاني لنفسها الحق في التعرض والتفتيش لأي مكان، والاعتقال والتحقيق مع أي شخص، ومصادرة وثائقه ونزع اللوحات والأعلام ووضع أي منظمة جماهيرية تحت الرقابة وغيرها من الممارسات القمعية والانتهاكات التي يصعب الإلمام بها.
تحديات ما بعد الاستقلال
من الملاحظ أن التحديات التي واجهت الاستقلال الذي تحقق بعد ثورة الـ 14 من أكتوبر هي نفس التحديات التي تواجه اليوم ثورة 21 سبتمبر منذ نجاحها في العام 2014م في إسقاط الوصاية الخارجية عن اليمن وأدواتها المحلية التي ظلت تعمل لصالح القوى الخارجية مقابل امتيازات مالية وسياسية بعيدا عن المصلحة العامة للشعب اليمني.
وفي مسعى واضح لإفشال أهداف ثورة 21 سبتمبر الشعبية في الحرية الاستقلال والتحرر من الوصاية والهيمنة الخارجية، شنت قوى الاستعمار القديم الجديد عدوانا عسكريا وتدخلت بشكل مباشر في شؤون البلد الداخلية، في تكرار لنفس السيناريو والتحديات التي واجهت ثورة 14 أكتوبر بعد تحقيق الاستقلال، إذ سرعان ما بدأت الثورة المضادة ومحاولة الاستعمار البريطاني العودة من جديد عبر إثارة تناقضات داخلية وتأزيم الوضع الاقتصادي، والتدخل المباشر.
وقد تطرق البرنامج الوزاري الأول لحكومة الثورة عام 1968م، إلى أبرز التحديات التي واجهت الاستقلال ومنها تصدير الثورة المضادة من خارج الجمهورية بالاشتراك مع حكام العهد البائد من سلاطين إقطاعيين وعملاء وسياسيين يدعمهم الاستعمار لتنظيم عمليات التسلل والتخريب، ومحاولات احتواء الثورة وتغذية الصراعات في صفوف الثوار لشغلهم عن مواجهة الأعداء الحقيقيين، وبما يمكن القوى الرجعية المنهارة من العودة إلى السلطة والتحالف مع الاستعمار الجديد.
تعرضت الجمهورية الوليدة لضغوط اقتصادية بما لا يمكنها من السيطرة على الاقتصاد الوطني وتحريره من التبعية الأجنبية، وغير ذلك من الأساليب الاستعمارية القديمة الجديدة، إلى جانب محاولة بريطانيا الإبقاء على مصالحها الاقتصادية القديمة والتنصل عن التزاماتها وتعهداتها في دفع التعويضات مقابل استغلالها واستخدامها لأراضي الجمهورية وأجوائها ومصادرها الاقتصادية أثناء فترة الاحتلال الطويل سعيا منها لخنق إرادة الشعب اليمني وإسقاط نظامه التقدمي بتفجير الأزمة المالية، وغير ذلك من أشكال الحروب والأزمات المفتعلة التي يمارسها تحالف العدوان اليوم من استهداف العملة الوطنية وقطع الرواتب وتشديد الحصار على الموانئ والمطارات ونهب الثروات النفطية والغازية والسمكية وغيرها من أساليب التضييق والتجويع لثني الشعب اليمني عن نيل حقوق المشروعة في الحرية والاستقلال.
عودة الاستعمار وتجدد الثورة
تعود ذكرى الاستقلال اليوم في ظل واقع مرير أفرزته ثمان سنوات من الحرب العدوانية على اليمن تزامنا مع استمرار تدخل دول الاستعمار القديم الجديد في شؤون البلد، وما تقوم به من تعميق للأزمات الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية ودعم للكيانات والمليشيات المناطقية المسلحة ونهب للثروات السيادية والسيطرة على المنافذ والمواقع الاستراتيجية.
تُعد بريطانيا الفاعل الدولي الأول في العدوان على اليمن، وتمارس استراتيجياتها الاستعمارية القديمة والجديدة عبر الإمارات التي تحتل معظم السواحل اليمنية في جنوب البلاد وغربها، فيما يقوم العدوان الراهن على الإرث السياسي والخبرة البريطانية كونها صاحبة العلاقات والروابط مع القوى المحلية العميلة في اليمن ومشيخات الخليج.
وعملاً بذات النهج الاستعماري البريطاني تقوم الإمارات اليوم بدعم المجلس الانتقالي العميل وأحزمته الأمنية وإعطائه حكماً ذاتياً للمحافظات الجنوبية ليضمن للإمارات وبريطانيا المصالح والطموحات الاستعمارية.
وعلى ضوء هذه التحديات تبرز أمام الشعب اليمني مهمة ملحة في مواصلة نهجه الثوري الذي بدأه في الـ 21 من سبتمبر 2014م، في مواصلة التصدي للعدوان الذي كان من أهم أهدافه إعادة الوصاية على اليمن، وحرمان الشعب من تحقيق طموحاته في بناء دولة قوية واقتصاد وطني متحرر من التبعية للخارج وتعزيز قدرات البلد الدفاعية والهجومية التي بدأت تتحقق كواحدة من ثمار الثورة على الرغم من الظروف الصعبة للبلد.
تنظر ثورة 21 سبتمبر إلى قضية الغزو والاحتلال الأجنبي كأحد أبرز القضايا والمهام الوطنية، ويؤكد قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي ورئيس المجلس السياسي الأعلى المشير الركن مهدي المشاط في مختلف المناسبات على الالتزام الوطني والديني والأخلاقي بطرد الغزاة وتطهير كل شبر من الأرض اليمنية، وصون السيادة الوطنية، في البر والبحر والجو.
ومن هذا المنطق ترى قيادة الثورة وكافة الأحرار من أبناء الشعب اليمني أن الاحتفال بذكرى عيد الاستقلال يظل منقوصا مادام هناك جندي إماراتي أو سعودي أو أمريكي على تراب الوطن شماله وجنوبه، وكما احتفل الشعب اليمني بجلاء آخر جندي بريطاني في الثلاثين من نوفمبر، لابد أن يحتفل اليمنيون عاجلا أم آجلا بدحر قوى الغزو والاحتلال الجديد من كافة الأراضي اليمنية.