تُعدّ المنطقة العربية الأكثر تأثّراً، في الوقت الحالي، بالهجرة القسرية؛ فهذه المنطقة، التي يُمثّل سكّانها خمسة في المئة من سكّان العالم، تستضيف 32 في المئة من اللاجئين، و38 في المئة من النازحين داخليّاً؛ بسبب مشكلات الفقر المزمنة، وازدياد حدّة الحروب ووتيرتها، واستفحال تأثير التحوّلات المناخية والتغيّر البيئي، والتنقّل الحضري.
عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، صدر حديثاً كتاب “الهجرة القسرية في البلدان العربية” من تأليف مجموعة من الباحثين؛ هُم: أحمد قاسم حسين، وراما سحتوت، وفرج سليمان، وإيهاب محارمة، وزينات حسن، وماجد حسن علي، وحسن الحاج علي، وأحمد سامر بكور، ومنير مباركية، وحميد الهاشمي، وسلطان بركات، وموسى علاية، وحورية آيت قاسي، وعمر روابحي، وهاشم نعمة فياض، وخلود العجارمة، وغسّان الكحلوت، وياسر درويش جزائرلي، وتحرير غسّان الكحلوت.
يُحاول العمل تقديم مساهمة في فهم ظاهرة الهجرة القسرية في البلدان العربية وتحليلها، متناولاً الظاهرة في ثلاثة محاور؛ يسلّط الأوّل الضوء على جوانب قانونية متعلّقة باللاجئين والنازحين، ويُعالج الثاني أبعاداً مختلفة لمشكلات اللجوء والنزوح القسري ويبحث في الحلول الممكنة لهذه المشكلات. أمّا المحور الأخير، فيحلّل تجارب أوروبية في التعامل مع الهجرة القسرية من البلدان العربية.
شوّهت دولٌ غربية الهدف الحقيقي للاتفاقية الخاصّة بوضع اللاجئين
في المحور المتعلّق بحماية حقوق اللاجئين، يُشير الكتاب إلى أنّ حكومات العالم المتقدّم في الوقت الراهن تعتمد لغة اقتسام أعباء ما يتّصل بمسألة التعامل مع اللاجئين؛ وهو أمرٌ يعزّز نوعاً من الفصل العنصري العالمي، بسبب انتماء معظم اللاجئين إلى العالم الأقل تقدّماً، مُضيفاً أنّ بعض الدول الغربية شوّهت الهدف الحقيقي للاتفاقية الخاصّة بوضع اللاجئين، من خلال ادّعاء أنّها تهتمّ بتحديد التزامات حماية اللاجئين في “الملاذ الأخير” فحسب؛ أي أنه يجوز إرسال اللاجئين روتينيّاً إلى أي دولة أخرى تَقبلهم، من دون تعريضهم لخطر الإعادة القسرية إلى أوطانهم الأصلية.
ويُضيف بأنّ هذه الحكومات تستخدم حزمةً من المغريات والضغوط حتى تجبر الحكومات المرشحة لأن تكون دولها ملاذاً أخيراً على قبول مثل هذه الصفقات. وفي الوقت نفسه، تلجأ بعض حكومات العالم المتقدّم إلى تكييف وضع اللاجئين من المهاجرين غير القانونيين الذين يكون وصولهم مفاجئاً، على الرغم من أنّ الاتفاقية تنصّ على خلاف ذلك.
ويلفت الكتاب إلى أنّ لقانون الدولي للجوء هو أبطأ فرعٍ من فروع القانون الدولي العام حركةً وتطوّراً؛ فمن حيث الصكوك، لم يشهد هذا القانون أيّ تحديث جذري لصكوكه القديمة التي تعود إلى سياقات آثار الحرب العالمية الثانية. ومن حيث آليات الحماية، لم تتطوّر منظومته لاستحداث إجراءات شبه قضائية على شاكلة منظومة القانون الدولي لحقوق الإنسان، فضلاً عن أن تستحدث إجراءات قضائية على غرار القانون الجنائي الدولي، مُضيفاً أنّ ذلك أحدث في داخله قصوراً في الجانبين: الصكوك والآليات؛ ما يدفع، في كثير من الأحيان، إلى الرجوع إلى صكوك القانون الدولي لحقوق الإنسان وآلياته.
في المحور الثاني، نقرأ عن واقع اللاجئين العراقيّين في أوروبا بين إكراهات اللجوء وآفاق الاندماج؛ حيث يُشير الكتاب إلى أنّ هجرة اللاجئين العراقيّين إلى أوروبا عموماً، وهولندا خصوصاً، ترتبط بأوضاع عدم الاستقرار السياسي، وتعاقب الأنظمة المستبدة، والحروب الداخلية والخارجية، والاحتلال الأجنبي للعراق، وأنّ عقد التسعينيات شهد تدفُّق أكبر عدد من اللاجئين نحو هولندا؛ إذ ارتفع عدد العراقيين في هذا البلد على نحو سريع، وكانوا يُعدّون أكبر مجموعة جديدة حتى عام 2016 إلى أن صار اللاجئون السوريون أكثر منهم عدداً، وقد جاءت الأغلبية الساحقة منهم بوصفهم لاجئين.
يُسجّل الكتاب، هنا، ملاحظة تتعلّق بتغيُّر نمط الهجرة إلى هولندا من بلدان اللاجئين؛ إذ أصبحت الهجرة العائلية من العراق وإيران والصومال ذات أهمية أكثر من هجرة اللجوء، ويخصّ هذا الأمر مهاجري لَمّ شمل الأسرة بالنسبة إلى طالبي اللجوء الذين جاؤوا إلى هولندا في سنوات سابقة. وعلى الرغم من هذا التغيير، لا تزال هجرة اللجوء تمثّل جزءاً مهمّاً من مجموع الهجرة من بلدان اللاجئين، ومنها العراق.
ومن خلال تحليل ومقارنة مكوّنات بنية العراقيّين الاجتماعية – الاقتصادية في هولندا (البنية العمرية والعائلية والخصوبة السكانية والبنية التعليمية والسكان النشطين اقتصاديّاً والبطالة ومستوى الدخل والبنية الإثنية والدينية)، يخلص العمل إلى أنّ هذه المكوّنات تتباين بدرجات معيّنة مقارنةً بالجاليات اللاجئة والمهاجرة في هولندا، وأنّها أكثر اختلافاً عن بنية الهولنديّين الأصليين. لكن مع طول فترة الإقامة تقترب هذه البنية من البنية العائدة إليهم، خصوصاً البنية التعليمية، وتتشابه مع بنية اللاجئين العراقيين في بلدان المهجر، ولا سيما في أوروبا. وقد استقطبت هجرة اللاجئين الفئات الشابة، وأثّرت بعمق في بنية المجتمع العراقي العمرية والجنسية والتعليمية.
مستقبل الاندماج يحدّده عاملان: الاقتصاد وسلوك اللاجئين أنفسهم
ويُشير الكتاب إلى مجموعة من العوامل التي تُضعف اندماج العراقيّين في المجتمع الهولندي، وأبرزها التباين الثقافي والحضاري والديني بين هذا المجتمع والمجتمع الأصلي للاجئين، والعنصرية والأحكام المسبقة، وقلّة تفهّم قطاعات من الهولنديّين مشكلة اللاجئين، وصعود اليمين المتطرّف، وضعف إجادة اللغة الهولندية خصوصاً بالنسبة إلى الجيل الأوّل من العراقيّين، وضعف فهم الثقافة الهولندية، والنظر إلى المجتمع الهولندي من منظار اجتماعي عرقي.
لكنّه يلفت، من ناحية أُخرى، إلى أنّ ارتفاع نسبة الجيل الثاني من العراقيّين سيقلّل من صعوبات الاندماج بمرور الوقت، لأنّ بنيتهم التعليمية، على نحو خاص، تقترب من بنية الهولنديّين الأصليّين، كما أنّ المجتمع الهولندي بات يتّجه أكثر فأكثر نحو التعدُّد الثقافي.
يتوقّف الكتاب، في المحور الثالث، عند مسألة اللاجئين السوريّين في ألمانيا”؛ لافتاً إلى أنّ وصول عدد كبير من اللاجئين السوريّين والمسلمين في عامَي 2015 و2016 إلى هذا البلد شكّل نقطة التحوّل الثانية في تاريخ الهجرة إليه بعد وصول العمال الأتراك إليه في الستّينيات. وبعد موجة اللجوء، سيشكّل السوريّون الأقلية المسلمة الثانية في ألمانيا بعد الأتراك. وإذا كان النقص المتعلّق باليد العاملة سبب استقدام ألمانيا عمّالاً أتراكاً في القرن الماضي، فإنّ انهيار نسبة المواليد، الذي يمثّل خطرًا على مستقبل نمو الاقتصاد الألماني، أسهم في قرار المستشارة أنغيلا ميركل فتح أبواب بلادها للاجئين. وجرى بناء هذا القرار التاريخي على ركيزتَين؛ الأولى هي قوّة الاقتصاد الألماني التي ستستوعب القادمين وتضعهم على درب الاندماج في المجتمع، والثانية هي الدروس التي تعلَّمتها الحكومة الألمانية من موجة الهجرة الأولى التي كانت من دون أي سياسة اندماج.
يَعتبر الكتاب أنّ هذا الرهان الاقتصادي للحكومة الألمانية رهاناً ثقافيّاً يطرحه خصوم سياسة الهجرة والاندماج، ويدَّعي هذا الرهان أنّ المسلمين لا يمكنهم الاندماج في المجتمعات الغربية، بسبب دينهم الذي لا يستطيع مواكبة الحداثة، مضيفاً أنّ مستقبل الاندماج سيحدّده عاملان: الأول هو ما راهنت عليه ميركل، فإذا استمر ّالاقتصاد في أدائه القوي، فسيستمر في أداء دوره المركزي في الاندماج. أمّا الثاني، فهو سلوك اللاجئين أنفسهم.