صنعاء – سبأ: أنس القاضي
حددت الجبهة القومية القائدة لثورة 14 اكتوبر، أهدافها بالتحرر من الاستعمار العسكري والسياسي البريطاني وإزالة السلطنات توحيد أراضي وجزر الشطر الجنوبي من اليمن، وضمان الاستقلال السياسي وصون السيادة الوطنية في مواجهة الثورة المضادة، وربط قضايا التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي من الاستغلال، وقطع التبعية الاقتصادية بالرأسمالية العالمية من أجل الاكتفاء الذاتي وتجاوز واقع التخلف الذي كرسه الاستعمار، وبناء دولة عادلة، والتضامن مع نضال الشعوب العربية وشعوب الأرض ضد الاستعمار والصهيونية العالمية، والانتقال من مواجهة الاستعمار في الوطن إلى مواجهته في العام، باعتبار البلد جزء من حركة الثورة العالمية.
هذا الفهم لقضية التحرر الوطني، ليس غريباً عن واقعنا اليوم، حيث عاد الاستعمار الغربي بأشكال جديدة، من الاستعمار الأمريكي والبريطاني والفرنسي وتُعد بريطانيا الفاعل الدولي الأول في الأوضاع الراهنة داعمة للتدخل العسكري العدواني وتمارس استراتيجياتها الاستعمارية القديمة والجديدة عبر دولة الإمارات العرية المتحدة التي تحتل معظم السواحل اليمنية في جنوب البلاد وشرقها وغربها بواسطة ميليشيات محلية.
إن جوهر السياسة الاستعمارية البريانية الذي يجري تطبيقها، مع استيعاب التطورات هو تقسيم الجنوب اليمني إلى أقاليم فيدرالية، يتناسب مع التقسيم الاستعماري القديم لجنوب اليمن إلى محميتين شرقية وغربية، وكذلك فصل الساحل الغربي عن شمال اليمن الذي يعد أيضاً مشروعاً بريطانيا، كما أن تقسيم شمال اليمن إلى دولتين “زيدية” و”شافعية” وإثارة العصبيات الطائفية وهو الأخر مشروع بريطاني قديم .
ومقارنة بالتحديات الت واجهتها ثورة 14 أكتوبر الواردة في البرنامج الوزاري الأولى لثورة 14 أكتوبر، 1978م، نجد أن هناك تطابقاً مع التحديات التي تواجها اليوم ثورة 21 سبتمبر على الصعيد الوطني، منها الغزو الأجنبي والجبهات العسكرية التي تنظيمها قوى الثورة المضادة بالحالف مع الاستعمار والرجعية الخليجية، وكذلك استهداف الجبهة الداخلية والعمل على تفجير التناقضات الثانوية في صفوف الشعب، وفرض الحصار والحرب الاقتصادية أي استخدام الورقة الاقتصادية في العدوان، واحتلال الإمارات للجزر اليمنية وإخراجها من دائرة السيادة الوطنية وحتى من دائرة حكم المرتزقة،بل أن المناطق التي حددها ميثاق الجبهة القومية عام 1965م كمناطق محتلة هي اليوم محتلة.
على ضوء هذه التحديات فإن على الشعب اليمني مهمة ملحة، في إيقاف الحرب العدوانية إحلال السلام وصون السيادة الوطنية، وبناء دولة عادلة قوية على أساس من التعددية السياسية والشراكة الوطنية وجيش وطني حديث، وبناء اقتصاد وطني متحرر من التبعية البنيوية للرأسمالية العالمية يؤمن الاحتياجات التنموية والاستهلاكية والدفاعية، وتعميق البُعد الأممي في التضامن مع القضية الفلسطينية وتحرير الأراضي العربية المحتلة ومواجهة المشاريع الاستعمارية الغربية في المنطقة وتصفية القواعد العسكرية، والتضامن مع شعوب العالم النزاعة نحو نظام دولي متعدد الأقطاب.
إن القدر التاريخي يحتم على ثورة 21 سبتمبر، باعتبارها الاستمرار الموضوعي لحركة الثورة اليمنية واعتبار أنصار الله وريث الحركة الوطنية اليمنية ، أن تبني الدولةالعادلة دولة الشراكة وتقيم العدالة الاجتماعية في مواجهة الاحتكار والاستئثار والإقصاء في الشق السياسي الاقتصادي الاجتماعي امتداداً لثورة 26 سبتمبر، وفي ذات الوقت تعمق البُعد الوطني الاستقلالي الأممي الداعم للمقاومة الفلسطينية ولنضالات الشعوب في العالم امتدادا لثورة 14 أكتوبر المجيدة، فهذه هي عناصر القضية الوطنية اليمنية اليوم.
الميثاق الوطني للجبهة القومية
يُعد الميثاق الوطني “للجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل” الذي وافق عليه المؤتمر الأول للجبهة المنعقد في الفترة بين 22 – 25 يونيو 1965م أول وثيقة نظرية تطرح فيها قضية التحرر الوطني وتقدم الجبهة القومية مفهومها عن التحرر الوطني، وفي حقيقة الأمر فهو مفهوم حركة القوميين العرب التي ضمت إليها الفصائل الوطنية وظهر ما يسمى بالجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل.
الملاحظ أن المناطق المذكورة في الميثاق الوطني باعتبارها مناطق محتلة من قبل بريطانيا، هي اليوم محتلة، وكذلك الحديث عن القواعد العسكرية ومخاطرها العدوانية على اليمن ومحيطها.
جاء في الميثاق الوطني:
“إن جنوب اليمن المحتل يتكون جغرافياً وسياسياً من عدن وما يسمى بالمحميات الشرقية والغربية وجزر كوريا موريا وكمران وميون وسقطرة وجميع الجزر الواقعة على الساحل المقابل للمنطقة غرباً وجنوباً كما أن أي خطة استعمارية لفصل المنطقة أو تجزئتها إلى كيانات أو حجز أي من هذه الحزر لاستمرار احتلالها أو استخدامها كقواعد حربية احتياطية للاستعمار يعتبر ذلك كله انتقاصاً سافراً لحرية شعبنا في الجنوب، لذا فان جزر كوريا موريا وميون وكمران وسقطرة وجميع الجزر الواقعة على الساحل المقابل للمنطقة غرباً وجنوباً جزء لا يتجزأ من الجنوب، وتحريرها هدف حيوي تحتمه ضرورة الثورة ويدخل ضمن استراتيجيتها”.
وأضاف: “إن وجود القواعد العسكرية الاستعمارية في جنوب اليمن المحتل يشكل في الحقيقة اعتداء صارخاً على سيادة الشعب العربي لجزء من أرضه كما يمثل أيضاً حماية مستمرة لاستغلال الرأسمال الاستعماري لخبرات شعبنا في المنطقة ويدعم في الوقت نفسه قوى الاستغلال المحلية المتمثلة في الرأسمال المستغل والحكم السلاطيني الرجعي العميل ويكون نقطة وثوب وعدوان على الوطن العربي الكبير وشعوب آسيا وأفريقيا، ويشكل تهديداً مستمراً للأمن والسلام العالميين”.
وأوضح الميثاق مخاطر هذه القواعد على الأمن والسلم الدوليين وعلى حرية الشعوب ونضالها الوطني التحرري:
“إن القواعد العسكرية التي تنبع في حقيقتها من أهداف السيطرة الاستعمارية الرأسمالية على الشعوب المتخلفة وإن الأحلاف والتكتلات الاستعمارية على مختلف المستويات العسكرية والاقتصادية والتي هي في الأساس عملية تنسيق بين مصالح الدول الاستعمارية الناتج عن نمو وتعاظم حركة التحرر الوطني في البلدان المتخلفة في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية إن هذه القواعد العسكرية يجب محاربها على مختلف المستويات ومختلف الوسائل لا لكونها موجهة لا ضعاف كيان واستغلال الشعوب المتحررة والنامية ولكن لكونها تهدد أيضا السلام العالمي وتهدد في الوقت نفسه سلامة البشرية بمجموعها”.
التحديات الاستعمارية بعد الاستقلال
أعقب الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م حراك سياسي ونظري واسع في أوساط الجبهة القومية التي غددت الممثل الوحيد للشعب اليمني في جنوب اليمن المستقل. ففي 2 مارس 1968م أي بعد أربعة أشهر، عقد “مؤتمر زنجبار” للجبهة القومية، وفي 27 يوليو صدر البرنامج الوزاري لحكومة الثورية، وفي أكتوبر 1968م صدر عن الجبهة القومية ” برنامج استكمال مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي”، في مختلف هذه المحطات أي بعد الاستقلال وملامسة الأوضاع الحقيقة وبداية عملية التغيير، بدأ مفهوم التحرر الوطني في أبعاده المختلف يأخذ بُعداً ملموساً واقعياً بعد أن كان في الميثاق الوطني 1965م أكثر تجريداً، ومن الملاحظ خلال هذه الفترة تطور مفهوم التحرر الوطني أو بتعبير آخر تطور فهمهم للقضية الوطنية حيث أن مفهوم التحرر الوطني إنما هو فهمهم للقضية الوطنية اليمنية وفهمهم هذا تطور بالتجربة والممارسة.
البرنامج الوزاري 27 يونيو 1968م
البرنامج الوزاري لحكومة “جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية” أذاعه رئيس الجمهورية قحطان الشعبي بعد أن أقرته القيادة العامة للجبهة القومية وبعد اقراره من قبل مجلس الوزراء واللجنة التنفيذية، كان البرنامج انعكاساً لقرارات مؤتمر زنجبار.
في هذه الفترة كانت قد بدأت الثورة المضادة ضد اليمن الشعبية المستقلة، لهذا عاد خطاب التحرير مجدداً مع التشديد على إعادة بناء القوات المسلحة لمواجهة التهديدات، ويعد البرنامج الوزاري الأول للثورة بعد أربعة اشهر من تحقيق الاستقلال الوطني، وثيقة تاريخية على التحديات التي واجهت ثورة 14 أكتوبر بعد تحقيق الاستقلال ومحاولة الاستعمار البريطاني العودة من جدد عبر إثارة تناقضات داخلية وتأزيم الوضع الاقتصادي، والتدخل المباشر بالغزو والعدوان، وهي مؤامرات عددها البرنامج الوزاري كما يلي:
“تصدير الثورة المضادة من خارج حدود الجمهورية بالاشتراك مع حكام العهد البائد من سلاطين اقطاعيين ومستوزرين عملاء وسياسيين انتهازيين ورجعيين يدعمهم الاستعمار والامبريالية العالمية ومصالحها الاحتكارية لتنظيم عمليات التسلل والتخريب داخل أراضي الجمهورية .”
“تطبيق سياسة احتواء الثورة من خلال فتح ثغرة في جسد الثورة الصلب ودفع حركة التناقضات الجزئية إلى أقصى مداها لتحدث صراعات جانبية ودموية في صفوف الثورة تشغل الثورة عن مواجهة التناقضات الرئيسية والأعداء الحقيقيين للشعب لتتمكن القوى الرجعية والعناصر الانتهازية المنهارة من القفز الى السلطة والحكم وتقيم حلفا مع الاستعمار الجديد”.
“ممارسة ضغوط اقتصادية ضد الجمهورية حتى لا تمكن النظام الثوري الجديد من السيطرة الحقيقية على الاقتصاد الوطني وتحريره من السيطرة الأجنبية والعمل على رفاهية الشعب، ويتعرض شعب جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية وتنظيمه الثوري وحكومته، منذ انتزاع الاستقلال من بريطانيا للأساليب الاستعمارية القديمة والجديدة المشروحة أعلاه.. إن بريطانيا وهي تحاول الابقاء على مصالحها الاقتصادية القديمة وتصر على التحلل من كافة التزاماتها وتعهداتها وترفض تعويض شعب جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية عن استغلالها واستخدامها لأراضي الجمهورية وأجوائها ومصادرها الاقتصادية أثناء فترة الاحتلال الطويل ورفضها ذلك صراحة في المفاوضات الأخيرة بين وفد الجمهورية والوفد البريطاني إنما تستهدف خنق إرادة شعبنا الحرة وإسقاط نظامه التقدمي بتفجير الأزمة المالية”.
” اقتطاع بريطانيا لجزر كوريا موريا وتسليمها للسلطان العميل لها – إبن تيمور – لن يغير من حقيقة كون هذه الجزر جزءاً من أراضي الجمهورية”.
“لما كانت الجمهورية وشعبها يتعرضان لخطر الغزو الخارجي من قبل الثورة المضادة المحتشدة على الحدود وكل جبهات الأعداء؛ فان اتخاذ الحكومة الاجراءات الضرورية لصيانة أمن وسلامة الجمهورية وشعبها من المهام العاجلة الموكلة لوزارتي الدفاع والداخلية، وفي المقابل تقع على وزارة الدفاع ووزارة الداخلية مسؤولية إعادة بناء مؤسستي القوات المسلحة والأمن العام ثورياً وتزويدهما بالأجهزة والمعدات الحديثة، وذلك أمر ضروري حتى تمارس هاتان المؤسستان دورهما في حفظ الأمن وإشاعة الطمأنينة والاستقرار والدفاع عن الجمهورية”.
من الملاحظ أن هذه التحديات هي التحديات التي تواجه اليوم ثورة 21 سبتمبر المجيدة.
الاستعمار الجديد والثورة المتجددة
ذهب الاستعمار البريطاني القديم مؤقتاً، ليأتي استعمار جديد فالدول الاستعمارية الأوربية مازالت تظل تنظر إلى مستعمراتها السابقة وكأنها صحابة الحق في إعادة استعمارها.
الوثائق الصادرة عن الاستخبارات العسكرية اليمنية قبل 21 سبتمبر تستفز كل وطني يمني لحساسية المعلومات السيادة عن البحرية اليمنية التي أخذتها بريطانيا إن سعي بريطانيا لأخذ هذه المعلومات العسكرية اليمنية عن القوة البحرية، يؤكد استمرار نظرتها الاستعمارية لليمن.
تُعد بريطانيا الفاعل الدولي الأول في الأوضاع الراهنة من العدوان على اليمن، وتمارس بريطانيا استراتيجياتها الاستعمارية القديمة والجديدة عبر دويلة الإمارات التي تحتل معظم السواحل اليمنية في جنوب البلاد وغربها.
يقوم العدوان الراهن على الإرث السياسي والخبرة التاريخية البريطانية، فبريطانيا صاحبة العلاقات والروابط مع القوى المحلية العميلة في اليمن ومشيخات الخليج. وجدير بالذكر أن بريطانيا حين خرجت من جنوب اليمن بقوة ثورة 14 أكتوبر المجيدة فقد نقلت ثقلها الاستعماري من عدن إلى أبو ظبي.
حين قررت بريطانيا الانسحاب من عدن في ستينيات القرن الماضي، قامت بتشكيل ما سمي “بحكومة اتحاد الجنوب العربي” و”الجيش الاتحادي”، وذلك لضمان مصالحها الاستعمارية. عملاً بذات النهج الاستعماري البريطاني القديم قامت الإمارات بدعم المجلس الانتقالي العميل وأحزمته الأمنية لفرضه طرفاً فاعلاً معترفاً به ليضمن للإمارات وبريطانيا المصالح والطموحات الاستعمارية. ومن المعلوم تاريخيا بأن “السير وليام لوس” المستشار البريطاني المعتمد في عدن الذي هندس تشكيل ما سمي “اتحاد امارات الجنوب العربي” عام 1959م، وهو نفسه الذي هندس تشكيل “دولة الامارات العربية المتحدة” عام 1971م.