صلاح بوسريف*
مَنْ عالة على الآخر، نحن على الثقافة العربية، بما ساهمنا به فيها من أعطاب كانت حاسمة في حشرها في الماضي، حتى ونحن ندعِي الحداثة والتحديث، أم الثقافة العربية هي العالة علينا، بما وَرثناه عنها من مشكلات، تفاقمت مع عجزنا وانتكاسنا، بل إخفاقنا في خلق جو من الوعي المُغاير لِما حملته لنا، وما أخذناه عنها، في معرفتنا، وفي تكويننا، وفي ما قرأناه وعرفناه من كتب، في كل مجالات وحقول الفن والمعرفة والإبداع؟
لا نطرح السؤال لنجيب عنه، فقط، نُحاول أن نتساءل بشأن ما نحن فيه من انتكاس وتراجع وتقهقر، في مُقابل ما كُتِب، وقيلَ، ونُوقِش، منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، فيما ظنناه «نهضة» أو الطريق نحو النهضة. بما يعنيه هذا، من إحساس فاجِع بالهزيمة، في كل شيء، وليس في الثقافة وحدها، التي تبقى هي الزمام الذي به تتحرك الأشياء الأخرى، بما فيها السياسة والمجتمع والاقتصاد نفسه.
من يتأمل ما يُكْتَب اليوم في الشعْر، وفي النقد، وفي الفكر، في معظمه هو كلام تغلب فيه الاستعادة والتكرار، ما يشي باطمئنان الفكر والخيال لِلغة، والفكر الذي يكتب به، أو يتوكأ عليه، ويراه هو المرجع في قول الأشياء، والتعبير عنها، دون تحقيق أو تدقيق، ودون مراجعة أو تساؤل: ما الذي أكتبه، كيف أكتبه، وهل الطريقة التي بها أكتب، وأقول، ربما، هي تعبير على فكري وخيالي، واللغة، هل هي لغتي، أم هي اللغةُ التي يكتب بها الجميع، مثل الأيام، نتداولها إلى حين، ثم ما الذي يعنيه معنى ومفهوم الإبداع، عندي، هل هو استمرار أم استقرار، وهل يكفي أن أكتب وأنشر، لأكون الشاعِر والمُفَكر، أم أنا مُجرد كاتبٍ، ما دُمت أكتب دون فكرة، ودون لغة، ودون إبداع وابتكار، أو اختراق وخروج عن الطريق العام الغاص الذي هو طَريق الكُتاب، لا طريق المُبْدِعين من الشعراء والمفكرين!؟
نحن، اليوم، في حالةٍ من الغموض الغامض، لم نَعُد نُمارس الهدم، ولا حتى البناء، لأننا، لا يمكن أن نبني بيتاً داخل بيتٍ، أما ما كان سماه طه حسين بـ «هدم الهدم» فهذا صار جريرةً، بل جزيرةً، ونوعاً من الاغتراب الشامِل، حتى عند من كُنا نراهم حداثيين، وأصحاب فكر متنور، متقدم، إذا بنا نجدهم، اكْتَفَوْا بالبناء داخل البناء، وبالكتابة داخل الكتابة، لا يفكرون، لا يتخيلون، ما يكتبونه، ليس نابعاً منهم، من ذواتهم، من تأملاتهم، وما يرونه، ويعيشونه، بل مما يقرؤونه من كُتُب، ومن ترجمات، وما يقوله غيرهم، ممن بَنَوْا بيوتهم، بأفكارهم وخيالاتهم، لذلك فهم يدخلون عليهم، دون إذن منهم، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، ما يجعل ما يكتبونه، نوعاً من الاعتداء، والاختطاف، والاغتصاب، أي ما يمكن للمعرفة الشعرية، أن تكشفه، وتراه، وتتعرف عليه، لأنها تحقيق، وتدقيق، وتمحيص، وتَقَص، وليست تلفيقاً، واقتحاماً للبناءات المسكونة.
مشكلتنا الكبيرة والمُسْتَعْصِية، في الثقافة العربية، هي مشكلة الفكر الأعمى، الفكر الذي لا يتخيل، أو يكتب ويسأل، من خارج الخيال، الذي يكون في الفلسفة، توليداً للسؤال، واقتحاماً لأراضيه، ولِما ينطوي عليه من مجهولات، كما نجد عند فلاسفة ما قبل سقراط، وهذا الفكر، هو الفكر الذي نراه، اليوم، يتراكم، دون أن يكون نوعاً، فقط هو كتابةٌ، يمكن، في الغالب، التسَلي بها، إذا نحن تعبنا مما يشغلنا قراءة وكتابةً.
وضعٌ حَرِجٌ، لا نراه، بل لا نعيه، لا يدخل في تفكيرنا، لا نتأملُه، كمن يمشي في طريق، دون علامات تشْويرٍ، لا يعرف في أي اتجاه يسير، ولا ما تُفْضِي إليه الطريق، لا بمعنى المُغامرة والمجهول، بل بمعنى السير دون طريق، الطريق نفسها لا يراها من يسير بهذا المعنى، أو يسير دون معنى، أو هو في سيره مثل الواقف الذي تسير به الطريق، لا هو من يسير فيها. هل من الممكن، أن يكون ما نحن فيه، لحظة انتقال، رغم أن الانتقال، له مقدماته التي تبدو في المُساءلة والسؤال، وفي الفكر الجديد المُغاير، وفي التصورات التي تُعيد تفكير المفاهيم وحفز العقل على النظر في الأشياء بوعي آخر، يكون، إما انعكاساً للحظة التي هو فيها، أو بِعَكْسِها. والانتقال، يمكن أن نَسْتَشِف بعض علاماته، وما يفرزه من مظاهر وظواهر، تفتح لنا أفق السؤال، وأفق المعنى، وأفق الفكر والخيال. لا أجمع بين الفكر والخيال عبثاً، رغم أن المألوف، فيما نقرؤه عند بعض المفكرين والفلاسفة العرب، هو فصل الفكر عن الخيال، أو النأي بالفكر عن الخيال، علماً أن الفكر سيكون أعمى دون خيال، جسد يسير بلا اتجاه، أو هو جسد لا يسمع ولا يرى، إذا نحن اعتبرنا الخيال، هو أفق نظرٍ، وهو الموسيقى التي تأخذنا إلى مجهولات الفكر والسؤال، وتضعنا في سياق كتابةٍ تُبْدِع وتختلق، ولغتها، هي لغة فيها الفكر يُعانقُ الخيال، أو هما، معاً، في المرآة نفسها، النفَس نفسه، في الماء نفسه.
مشكلتنا الكبيرة والمُسْتَعْصِية، في الثقافة العربية، هي مشكلة الفكر الأعمى، الفكر الذي لا يتخيل، أو يكتب ويسأل، من خارج الخيال، الذي يكون في الفلسفة، توليداً للسؤال، واقتحاماً لأراضيه، ولِما ينطوي عليه من مجهولات، كما نجد عند فلاسفة ما قبل سقراط، وهذا الفكر، هو الفكر الذي نراه، اليوم، يتراكم، دون أن يكون نوعاً، فقط هو كتابةٌ، يمكن، في الغالب، التسَلي بها، إذا نحن تعبنا مما يشغلنا قراءة وكتابةً.
السؤال نفسه، يمكن طرحُه، في الشعْر، على الخيال، هل الشاعر، هو من يكتب، اللغَةُ هي من تقودُه، وتأخذه إلى تداعياتها التي هي من قبيل الكلمات تستدعي ما يلازمها، كما كان يحدث للشعراء القُدامى؟ أم أن اللغةَ، نحن من صِرْنا نكتُبُها، ونتفاوض فيها معها، ما نقبله وما ترفضُه، وما يروق لنا ويُسايِر ذوْقَنا وخيالنا، وما نميل إليه من مجازات واستعارات وتراكيب وصُوَر، وبهذا سنكون نحن من نكتب، لا من نَنْكَتِب في غفلة مِنا، وإلا، في مثل هذه الحالة، ما الفرق بيننا، وبين من كانوا ناطقين باسم الجن، كما صورَهُم ابن شُهَيْد الأندلسي، في رسالة «التوابع والزوابع» وغيره من الشاعريين العرب القُدامَى، الشعْر يُلْقَى، مثل الوحي، في أفواههم، يُرَددُونَه، كما سمعوه، أو نَزَل عليهم. الشعْر خيال، وليس إملاءً، أو وَحْياً يُوحَى، واللغة لَفْق هذا الخيال، وما يبتغيه الشاعر من بناء، وهذا شرط جوهري في الشعْر. أبو تمام، أدِينَ، في لغته، لأنها كانت لُغَتُه، هو من قالها، وهو من ابْتَنى تراكيبها وصُورَها ومعانيها، وهو من أجج فيها الرماد الذي جعلها جمراً. لن تجد لغتَه عند غيره، فهي له وحده، هو المعنِي بها، لا شياطين ولا ملائكة قذفتْها في لسانه، بل هو شيطان وملاك اللغة. لذلك، اعْتُبِرت العربية التي قال بها الشعْر، عند الشاعِريين والنقاد، وعند اللغويين البلاغيين، غير ذات صلة بالعربية، أو هي باطِلة، لأنها ليست من كلام العرب!
الثقافة العربية، إذن، هي ثقافة تعيش على المُكْتَسبات، على المُنْجز، لم تنتبه إلى أنها دخلت، شعراً وفكراً، مرحلة البناء في البناء، أو بناء بيت داخل بيت، أو ما أُسَميه في وضع «القصيدة» تسميةً، بناءً، بالبناء المسكون، ساكِنُه فيه.
الذاتُ الاستثناء، الذات المُتحَررَة، المجبولة على الخروج والاختراق، لا تنتمي إلى لغة العموم، ولا إلى لُغَة الكُتاب، أو اللغة «المطروحة في الطريق» لأنها لُغَة إبداع وإضافة، ولغة، ونحن نقرؤها، تصدمنا، تسألنا، تُهَججُنا، توقظنا من غفلة العادة، وتضعنا في المَهَب، في اللحظة التي يصير فيه ما ظنَناه موجاً لُجاً. هنا، في هذا المفرق، بالذات، نشرع في الانتقال، وفي الاستقلال، وفي إثارة الأذواق والحساسيات، الخيالُ الذي نَصْدُرُ عنه، هو خيال بلا ضفاف، هو استمرار، وهو ولادة، أو ما يكون بداية دائمة، لا تفتأ تَحدُث. هذا ما سميْتُه بالشعْر الآخر الذي علينا أن ندخل فيه، أن يكون هو نحن، لا ما ورثناه، سواء عند الماضين أو الحاضرين، لا بنفيهم وإقصائهم، كما يتوهم من يصنعون الآلهة ويسجدون لها، بل بالاستمرار بالقطيعة والانفصال، أي بما كان منهم استمرارً، وإبداعاً، لا ما كان شعاراً، وخطابةً، ومنبراً، وكلاماً يستنفر الأجسام، يحشوها بالانفعالات، التي تكون من وظائف السياسيين والزعماء، ومن يسعون إلى الزعامة وحكم الشعوب. الشاعِر، هو اللغةُ، بما هي خيال، أو بما هي دال لِسَاني، في علاقتها بغيرها من الدوال غير اللسانية، من علامات وإشارات ورسوم، وبياض، وحذف، وعلامات ترقيم، وغيرها. نحن إزاء صفحةٍ، ما لم ننتبه إليها كدال، سنفقد النص أو الكتابة، وندخل في الخِطَاب أو الشفاهة. ما حدث في الشعر المُعاصِر، الذي سعى إلى التخلص من الشفاهة بالبقاء فيها، أي في «القصيدة» بما هي غناء، وصوت مفرد، وبما هي شفاهة خِطاب وإنشادٍ، ما يُلْفَظ، لا ما نراه ونلمسُه، يمثُل أمامنا، شاخصاً، كأثر، هو ما يدُلنا على نفسه، وعلى ما ينطوي عليه من أسرار وأغوار.
الثقافة العربية، إذن، هي ثقافة تعيش على المُكْتَسبات، على المُنْجز، لم تنتبه إلى أنها دخلت، شعراً وفكراً، مرحلة البناء في البناء، أو بناء بيت داخل بيت، أو ما أُسَميه في وضع «القصيدة» تسميةً، بناءً، بالبناء المسكون، ساكِنُه فيه.
ثقافة، حتى حين ساءلت الحداثة، اكْتفَتْ بأن تُساوِم الحاضر بالماضي، تبقى فيه بنوع من التعديل الطفيف لبعض جُدرانه، دون أن تمس الأعمدة، أو الأساسات، كما كان يفعل الإغريق، لمعرفة سبب العطب، أو الشقوق والتصدعات التي تظهر بين الفينة والأخرى، في هذا المكان أو ذاك. المُساءلة، تبدأ من الذات، أولاً، هل هي، فعلاً، ذات حداثة وصيرورة وانطلاق، أم هي ذاتٌ، الاستقرار في وَهْمِها استمرار. فالحاجة إلى وعي الصيرورة، باتت مُلِحةً، بالعودة إلى من قرؤوا الماضي، كيف قرؤوه، وبأي سؤال، وما مصدر، أو مصادر هذا السؤال نفسه، هل هو سؤال نابع من الذات، أم اقْتَحمها ودخل عليها، ليكون بناء في قلب البناء، وإقامة في بيت مأهول، مُؤثت ومفروش. المُراجعة، والتحقيق، بين ما لم نعُد نقوم به، وصرنا نُسلم للحداثة نفسها بما بَلَغَتْه، وأنها المُنْتَهَى، أو أعز ما كان مطلوباً، أو ما بلغناه، وهذا مُحال، بمنطق الصيرورة نفسه. ما يعني، أن أي شاعر أو مفكر، كيفما كان، من زمننا أو من خارجه، هو موضوع مُساءلة واستجواب، وهو موضوع قراءة وإعادة نظر، فيما كتبه شعراً أو نظراً، أو فيما كتبه فكراً ومُساءلة، وما اقترحه من أفكار ومفاهيم وتصورات.
لا نستطيع رؤية الشمس، رغم ما تَلْسَعُنا به من ضوء، ما لم نفتح أعيُننا عليها، لنرى صفاء الشمس، في لونها، أو فيما تُلْقِي به علينا من ألوان. ما فعله، تماماً، الفلاسفة والشُعراء، المُغيرون والمُجددُون، بما ألقوه من جمر في الرماد، أو ما أحْيَوْهُ من جمر في الرماد. الثقافة العربية، إذن، هي ثقافة استقرت على الحداثة في أسئلتها، وفي كتاباتها، وفي مظاهرها، وسطوحها، فقط، ليبقى العُمْق والقاع نائياً، بعيداً، ما أن ننزل إليه، حتى نجد أنفسنا في مواجهة سلفيات حداثية، اطمأنت إلى حداثة، ظنتْها هي نهاية المَطاف، وهذه، بين أكبر وأعْتَى أعطاب الفكر والشعْر العربيين اليوم، وكأننا نُراوِح المكان نفسه، والزمان نفسه والأسئلة نفسها واللغة نفسها والرؤَى والتصورات والمفاهيم نفسها، بل والمواقف، لا خيار لنا، سوى أن نَقْتَفِيَ ونتبِع، مثلما ظَن الماضون، ومعهم ابن شُهيد، أن الخيال وحي، والمعرفة وحي، واللغة تُلْقَى فينا، باعتبارها انكتاباً، وهذا من المآزق الكبرى في تصور هايدغر، نفسه، للغة، بما استوحاه من شعر هولدرلين، الذي هو شعر له سياقاته، وله مُبررات وجوده، وله رؤيته التي ليست، بالضرورة، هي نفسها ما نراه ونعيشه، ونُعانيه في الثقافة العربية، في وضعها الراهن، في أن تكون اختراقاً واختلاقاً، رغم حرصنا على المعنى الكوني للإبداع، الذي لا تأسره هويات مُغْلَقَة ضَيقَة، لأن هوية الإبداع، هي نفسه النهر الذي يتحرك في أكثر من اتجاه، بأكثر من جدول، من العين نفسها أو النبْع.
كاتب مغربي