في كتابه “فلسطين في مرآة الثقافة الروسية” الذي صدر حديثاً عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، يسعى الباحث محمد دياب إلى إلقاء الضوء على صورة فلسطين كما بدت في كتابات الحجَّاج الروس إلى الديار المقدسة بدءًا من القرن الثاني عشر وحتى بدايات القرن العشرين، وفي انطباعات كبار الأدباء والشعراء الروس، وفي إبداعات رسامين مبدعين تركوا لوحات ورسومًا عدة تصوّر الطبيعة الفلسطينية أو تجسّد أحداثًا من تاريخ فلسطين القديم، وفي مقاربات مؤرخين ومستعربين بارزين في القرنين التاسع عشر والعشرين، وكذلك في كتابات الباحثين السياسيين المعاصرين.
ويهدف الكتاب أيضًا إلى الإجابة عن أسئلة من مثل: إلى أيّ مدى أثّرت فلسطين في وعي الإنسان الروسي؟ وكيف انعكست في نتاجات الأدب والفن والفكر السياسي في روسيا؟ وكيف تفاعل المجتمع الروسي مع ما شهدته وتشهده الأراضي المقدّسة من تطورات وأحداث مصيرية؟ وما أهمية دور المدارس الروسية التي أُنشئت في فلسطين وسورية ولبنان في تعريف طلابها بالثقافة الروسية، ومساهمتها في تقديم صورة أكثر واقعية للمجتمع الروسي عن فلسطين؟
يُعتبر أدب رحلات الحجّ من روسيا إلى الأراضي المقدسة جزءًا مهمًّا من الآداب الروسية، ابتداء من القرن الثاني عشر. وقد احتفظ هذا الأدب بأهميته في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أثناء خلق صورة العالم المشرقي في روسيا، وسعي الأخيرة إلى تأكيد حضورها فيه، ومن ثم ترسيخه.
يناقش الكتاب دور المدارس الروسية التي أُنشئت في فلسطين وسورية ولبنان في تعريف طلابها بالثقافة الروسية
تَمثَّل العامل الأساسي الذي أثّر في وعي الحجّاج الروس إلى الأراضي المقدسة (والعالم العربي عمومًا) في التغيرات التي طرأت على عملية التطور التاريخي في الأساليب والتيارات الثقافية الكبرى، فتذكر المؤرخة والمستشرقة الروسية إيرينا سميليانسكايا خمس حقبات أو تيارات ثقافية، تأثرت بها كتابات الحجّاج.
أخذت الإبداعات الأدبية المكرّسة لفلسطين والقدس في الظهور منذ بدايات القرن التاسع عشر بصورة أساسية. ففي هذا القرن، زار فلسطين العديدُ من الأدباء والشعراء والفنانين والدبلوماسيين الروس البارزين، كان من بينهم الأدباء كوكولنيك وغوغول وبونين ودوروشوفيتش، والفنانون ريبين وفوروبيوف وبولينوف والأخوان تشيرنوفيتس، والدبلوماسيون دافيدوف وخيتروفو ومورافيوف، وكذلك المؤرخ وعالم الإثنوغرافيا نوروف، وكثيرون آخرون. وكتب شعراء عظام، مثل بوشكين وليرمنتوف، قصائد من وحي الأماكن المقدسة من دون زيارتها. وغنّى شعراء روس بارزون في تلك الحقبة فلسطين، من أمثال: ديرجافين ولومونوسوف وسوماركوف وأوبودوفسكي وغلينكا وآخرون؛ فكانت فلسطين هي الرابط الروحي الذي يشدّ الإنسان الروسي إلى هذه الأرض المقدسة، هذه الأرض الموعودة.
وكتب أيضًا شعراء وأدباء كثر في القرن العشرين عن فلسطين، من بينهم الشاعر ألكسندر فيودوروف (1868–1949)، الذي كتب بعد زيارته الأراضي المقدسة عام 1909 مجموعة من القصائد حملت عنوان “فلسطين”، فضلًا عن مجموعة من القصص. وكتب الناقد الأدبي سيرغي سولوفيوف (1895–1942) قصيدتين: “الدخول إلى أورشليم”، و”أمام أورشليم”. وحذا حذوهما الشعراء والأدباء فلاديمير غيلياروفسكي (1891–1938)، وفاليري بريوسوف (1873–1927)، ومكسيمليان فولوشين (1877–1932). وكانت قصائد آنّا أخماتوفا (1889–1960)، وفلاديمير نابوكوف (1899–1977)، ومارينا تسفيتايفا عن فلسطين (1892-1941) في رأي الكثيرين ذروة الإبداع الشعري. وكانت القدس وفلسطين أيضًا موضوعًا محبّبًا لدى الشاعر الكبير نيقولاي غوميليف (1886–1921)، عضو الجمعية الفلسطينية الأرثوذكسية الإمبراطورية. أما شاعر روسيا الكبير الداغستاني رسول حمزاتوف (1923–2003) فخصّص لفلسطين قصائد رائعة تنضح بالتعاطف العظيم مع قضية الشعب الفلسطيني العادلة.
لا بد من التوقف عند حدثٍ بالغ الأهمية بالنسبة إلى الحضور الروسي في المنطقة، تمثّل في إنشاء الجمعية الفلسطينية الأرثوذكسية الإمبراطورية في نهاية القرن التاسع عشر (أيار/ مايو 1882)، بهدف تعزيز تأثير روسيا الروحي والثقافي في المشرق.
كان إنشاء الجمعية، بأهدافها المعلنة وغير المعلنة، بمنزلة ردِّ فعل بعيد الأثر على الهزيمة التي تعرضت لها روسيا في حرب القرم، وكانت مجرد محطة في الصراع الدائر على التركة العثمانية، ومن أجل بسط السيطرة على المضائق (الدردنيل والبوسفور) وعلى الأراضي المقدسة. لقد وجدت روسيا نفسها حينذاك محرومة من الوصول إلى البحار الدافئة، وبرز في وجهها خصمان رئيسان هما بريطانيا، والولايات المتحدة – الدولة الفتية الصاعدة – أو بالأحرى رأس المال المالي البريطاني والأميركي المهيمن في هذين البلدين. كما عملت دول أخرى أيضًا على الوقوف في وجه روسيا وإعاقة تقدّمها جنوبًا، هي فرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا، وقد تمكنت جميعها في السابق من حجز مواقع استراتيجية لها بوصفها دولًا استعمارية في البلدان الجنوبية. وفي هذه الظروف خرجت فكرة إنشاء الجمعية إلى النور.
بوصفها جزءًا من المشرق العربي، كانت فلسطين أيضًا موضوعًا لكتابات المؤرخين والكتّاب السياسيين الروس في العصرين الإمبراطوري والسوفييتي: من كبير المستعربين الروس إيغناتي (إغناطيوس) كراتشكوفسكي ونيقولاي ميدنيكوف وقسطنطين بازيلي، إلى أغاتانغل كريمسكي وفلاديمير لوتسكي ويفغيني بلياييف وغيرهم، وصولًا إلى إيرينا سميليانسكايا ويفغيني بريماكوف، والمؤرخين المعاصرين في الحقبة ما بعد السوفييتية ألكسندر كريلوف وأندريه فيدورتشينكو وفلاديمير موروزوف والكثيرين غيرهم.
أما بداية الحقبة ما بعد السوفييتية، فقد شهدت شحًّا في الكتابات عن فلسطين. بيد أن هذه الحالة لم تدم طويلًا، فعاد المؤرخون والباحثون السياسيون، المستشرقون والمستعربون في الدرجة الأولى، إلى إيلاء قضية فلسطين وشعبها اهتمامًا متزايدًا. وخلافًا لكتابات مؤرخي الحقبة السوفييتية التي اتسمت عمومًا بالنظرة الموضوعية والعادلة والتعاطف مع قضية فلسطين وشعبها، تنوعت كتابات المؤرخين والباحثين السياسيين الروس في المرحلة الراهنة بين من هو متعاطف مع شعب فلسطين، وآخر محايد، بل وميَّال إلى النظرة الصهيونية في مقاربة القضية الفلسطينية.