نجم الدين خلف*
مع تفاقم الظّواهر المتّصلة بالتّحاور مع الجنّ وقضايا الاحتيال باسم هذه “المَلَكة” الروحانيّة الخارقة، مثل ما حصل في قضية “نائب الجنّ” المصريّ، وقبْلَه الوفاة الأليمة للفتاة للفلسطينية إسراء غريب، وما يجري في أيّامنا هذه من حديث عن مُبادرة في اليمن لسُكْنى البُيوت التي يقال إنّ الجنَّ يَعمرها، بدا من المَشروع التّساؤل عن الحقل المعجميّ الذي تُشَكّله مَظاهر هذه السلوكيّات، والتي شاعت خُصوصًا بعد سنَتيْ الجائحة التي جعلت النّاس يتعلّقون بأدنى بَصيص أمَل.
لذلك كثُرت القنوات التلفزيّة التي تعرض مُقدِّماتٍ ومقدّمين، جلّهم في العقد الرابع من عُمرهم فما فوق، وهو ما يُضفي شيئًا من المصداقيّة على عرضهم الذي يوظّفون من خلاله نظامًا سيمائيًّا يَستفيد من تعقّد العلامات ووظائفها. فعندما نفتح الشاشة، يُطلّ نَفسُ الديكور، مُثقلاً ومَشحوناً: في المَشهد، حكيمٌ (أو حكيمةٌ)، أمامه أرقام هواتف للاتّصال المباشر، ومن فوقها أو تحتها آياتٌ من القرآن أو إعلاناتٌ إشهاريّة حول نوعيّة الـمُعضِلات التي يمكن لهؤلاء الحكماء أن يحلّوها. ويستمرّ المشهد لساعاتٍ ليليّة طويلة، يغذّيه خطابٌ حول التأثير الذي يمتلكه هؤلاء لتغيير حياة المتابعين.
هذا المشهد ظاهرة خِطابيّة ثقافيّة بالدرجة الأولى، لأنّه يَعتَمد تركيبة سيمائيّة مدروسة العَناصر والأجواء، تُحلَّل باعتبارها سِجِلاًّ في القول ومدوّنَة من الكلام الذي يُنقل إلى متلقٍّ بحسب الجَدول السّداسيّ التواصليّ، الذي نَظّر له رومان جاكبسون، منذ عقود، في نموذجه التحليلي.
من الناحية المُعجميّة، يتألف هذا الخطاب من كلماتٍ خاصّة به مثل: رُقية شرعيّة، روحيّ، جنّ، تابع، حكيم، مُعين، قرين، شفاء، حلّ… وهي في مرتبةٍ وسطى بين الحقل الدينيّ، وبين ما يُمكن إدخالُه في باب الخُرافة والخِطاب الروحانيّ، والذي لا يخصُّ الضّاد فَحسب، بل يشمل سائرَ الثّقافات والحَضارات الإنسانيّة الأخرى.
ظاهرة ثقافية تعتمد تركيبة سيمائيّة مدروسة العناصر
وهكذا، لا تتميّز هذه القنوات بعَدَدها الكبير فقط، وقد تكاثَرَت مثل الفِطريات، بل بنوْع الخطاب الذي تستخدمه والأفكار التي تروّج لها من حيث قدرة هؤلاء “الحُكماء” على حلّ المشاكل الصحّية والعائلية والجنسيّة بلا استثناء، عبر استدعاء عالم الجُنون، “بإذن الله”، كما يقولون.
واللافت أن خطابَ هؤلاء “الحُكماء” لا يخلو من بِنيَة شبه مَنطقيّة، تُوهِم بتَماسُكه وبشرعيّته الدينيّة، ذلك أنّ الجُمَلَ السّريعة والمتكرّرة التي ينتجها هؤلاء الفاعلون تسعى إلى الإيهام بالتجانس العقليّ للخِطاب من جهة أولى، ثم بمطابقته للشّريعة الإسلاميّة من جهة ثانية، في مسعًى إلى إبعاد كلّ الاتّهامات الضمنيّة بِالشّعوذة والدَّجل، وهو ما يعلّل التلاعب بنُعوت مثل: شرعيّ، قرآنيّ، ربّانيّ، روحانيّ.
وقد خصّص ابن خلدون (1332 – 1406) فصولاً شيّقة في “المقدّمة” حول هذه “العلوم” وأدمجها في القسم الخاص بتصنيف العلوم. وكتب في ذات الموضوع محمد بن عبد الله الشبلي (1312 ـ 1367) في كتاب “آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان”. ولا شكّ أن العناوين التي ذُكرت، بالإضافة إلى قائمة ابن النديم، في “الفهرست”، تدلّ على مَدى حضور العنصر العِرفاني (gnostique) في النّسيج الثقافي، وتصارعه مع خطاب البرهنة العقليّة والوعي الوضعي بظواهر الطّبيعة.
ومن المُعاصرين، خصّص زكي نجيب محمود، في كتابه “المعقول واللامعقول”، فصلاً كاملاً لدراسة هذه الظواهر، وكذلك فعل محمد عابد الجابري في كتابه “بنية العقل العربي”. وقد توسّعَ كلاهُما في تفصيل مكوّنات الرؤية السحريّة للطَّبيعة والمجتمع وردّ بعضها إلى التراث الهيليني ونصوص الفلسفة اليونانيّة، التي كانت زاخرةً، هي الأخرى، بأحاديث الآلهة وتأثير النجوم في طبائع البشر، ودعوات الاتّصال بالملائكة وأنفُس الكواكب وروح الأرقام وقِيَمها.
إلّا أننا لا نَدري، في حدود اطّلاعنا، إنْ كانت معاجم اللغة القديمة قد عيّنت لهذا الحقل فصولًا مستقلّة، ولا سيّما ابن سيده (1007 – 1066) في كتابه “المخصّص”. وأمّا في الفترة المعاصرة، فنأمل أن يُصاغ فيها “معجمٌ مرتّب” يشمل كلّ المفردات اللصيقة بهذا الحقل، مع دراسة تاريخيّة لدلالاتها ومَظاهر التّلاعب بها، في إطار الدّرس الزّمَني لتطوّر الكلمات العربيّة وحياتها.
تعكِس هذه المفردات هيمنةَ الخطاب اللاعقلاني وحضورَه لدى التلقّي الشعبيّ، لإيمان فئاتٍ عريضة من الجماهير العربيّة بما يَرد في تلك القنوات من تُرّهات، وما يروّج خلالها من الاعتقاد في عالم لامرئي يؤثّر في حياة الناس، بعد أن وُكِل إليهِ حلُّ المشاكل اليوميّة، مهما كانت خطورتها. كما يؤكّد ضمور الفكر العلمي التحليلي وغياب الثقافة الفلسفيّة التنويريّة التي سادت في فترات سابقة من القرن العشرين، لكنها انحسرت اليومَ، ثم وقوع المخيّلة الشعبيّة تحت تأثير الكلمات ذات الإحالات الدينيّة.
معجمٌ يمثّل مرتبة وسطى بين الحقل الديني والخرافة
هذا، ولا نَستبعد تورّط السّلطات السياسيّة الحاكمة، في الدول العربيّة، في تشجيع مثل هذه الخطابات وحتى التّرويج لها، لأنّها تغطّي تقصيرَها في القيام بواجباتها حيالَ المواطنين. إذ يقع على عاتق الدولة وأجهزتها توفير مَواطن الشغل والصحّة والتعليم ونشر الثقافة النقدية، قطعًا مع ما سمّاه أوغست كونت (1798 – 1857) بالوعي الميتافيزيقي أو السّحري بالعالَم، الذي يرمي بالذهن في متاهات غيبيّة، تُعرقل نشوء الفكر العلمي والمقاربة العقلانيّة للظواهر لتغييرها.
ولا ينبغي التعلّل هنا بوجود ذات هذه المَظاهر في المجتمعات الغربية المتقدّمة، وحتى لدى أكبر السّاسة والمثقّفين، ومن بينهم الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتيرون، الذي اشتهر باتّخاذه “عرّافة” يعود إليها في كلّ ما يأتيه أو يَذَره من كبريات القَرارات السياسيّة؛ ذلك أنّ هذه الاستثناءات تؤكّد القاعدة ولا تنفيها. إذ لا يشكّ أحدٌ أنّ التكنولوجيا الحديثة والصناعات العسكريّة وغيرها من النظريات الفيزيائية لا تعود البتّة إلى مثل هذه الخِطابات اللاعقلانية، بل تنفيها في كلّ لحظة وتفنّدها بصحيح العلوم، كما أنها ظواهر جانبيّة، تَعيش على هامش الحركات الأدبيّة والعقلية المزدهرة في أوروبّا.
ولئن اتّخذ المفكّرون العقلانيون موقفًا حازمًا منها ودعوا إلى القطع الكلّي معها، فإنّ علماء الأنثروبولوجيا يؤكدون أنّ هذه الظاهرة مصاحبة للإنسان، وتؤدي وظائف إناسيّة ونفسيّة قارّة، ولا يكاد يخلو منها مجتمعٌ من المجتمعات البشريّة، لأنّها تستجيب لحاجة عميقة لدى الإنسان، وهي التعلّق بالغيب والإيمان بالمطلق الذي يهديه أملًا فسيحًا، يستريح من خلاله من وطأة النظر العقلي وأحكامه الجافّة، وليس به فَقط يَحيا الإنسان، وإنما بوتائر الغيب التي يحقّ له أنْ يُلاعبها بين الفَينَة والأخرى، كما يلاعب ريشةَ الفنّ ويغامر بسَورات الحبّ المستحيل.
ويبقى الشأن في اختيار مضمون هذا “الغيب” وعدم الوقوع في فخاخ التلاعب والإيذاء، وما عدا ذلك، فللناس مُتّسعٌ في تصوّر “الغيب” الذي يساعدهم على حلّ ما يطوّقهم من المشاكل العسيرة، ما دامت حكوماتُهم لا تنهض بهذه المهمّة التي هي أساس العقد الاجتماعي وواسطة العهد بين الحكّام والمحكومين.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس