يعد تحقيق العدل ونشره بين جميع المواطنين الضمانة الحقيقية لوجود المجتمع القوي المتماسك والمتسامح بإعتبار أن العدل هو أساس الحكم وباعتبار أن القضاء هو الركيزة الأساسية في إحقاق الحق وإقامة العدل وحماية الحقوق وصون الحريات، فالنظام القضائي في أي دولة يُمثل ركنًا مهماً في نظامها السياسي ومؤشراً صادقًاً على تقدمها ورقيها وعدالتها، حيث أن قياس تقدم الدول ورفعتها يعتمد على كفاءة واستقلال الجهاز القضائي العامل فيها وقدرته على العمل ضمن منظومة متكاملة مع باقي سلطات الدولة وأجهزتها المعنية بترسيخ سيادة القانون.
وتعد عملية إصلاح القضاء وتعزيز أداء السلطة القضائية إجراءاً مهماً وضرورياً للأرتقاء بمستوى العدالة في المجتمع، فالنظم القضائية في العالم لم تكن وليدة لحظة ولم تنشأ بمنعزلاً عن الظروف السياسية بل أن مسيرة النظم القضائية مرت بمراحل عديدة من التطوير الذي تتوج بإقامة منظومة قضائية متكاملة تهدف إلى تحقيق العدالة، فالقضاء لاسيما القضاء التجاري أصبح من أي وقت مضى مطالباً بالانفتاح على محيطه الخارجي والإطلاع على تجارب قضائية وثقافات قانونية أخرى رغبة في تطوير العمل التجاري حتى يصبح قادراً على إيجاد الحلول المناسبة لما قد يعرض عليه من منازعات تهم مجال الاستثمار ومن ثم يكون فاعلاً أساسياً في خلق مناخ سليم يسوده الاطمئنان والثقة والاستقرار ويشكل دعامة قوية لعملية التنمية وتشجيع ألاستثمار.
وإن المنظومة القضائية اليمنية بحاجة إلى استراتيجية شاملة لتطويرها وتعزيز إمكانياتها من خلال معالجة التحديات ومواصلة عملية التحديث والتطوير والارتقاء بأدائها وصولاًً إلى قضاء متميز يرسخ العدالة وسيادة القانون، على أن تهدف تلك الاستراتيجية إلى تعزيز أسس دولة القانون ودعم مسار إصلاح وتعزيز المنظومة القضائية بما يتطابق مع المعايير المعتمدة في هذا المجال من خلال مراجعة الانظمة المعمول بها وتقديم توصيات ومقترحات بهدف إصلاح وتطوير النظام القضائي باعتبار أن الجهاز القضائي له دوراً مهماً ومحورياً في عملية الإصلاح الشامل بأبعاده المختلفة، وعلى أن يتوافر في تلك الاستراتيجية منهجية الإصلاح القضائي وعناصرها الأساسية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمجالات ذات الأولوية ضمن برنامج الحكومة من أجل الوصول إلى الهدف المنشود للحكومة ألا وهو تعزيز سيادة القانون الذي لن يتحقق إلا من خلال دعم عملية الإصلاح القضائي، لذا فإنه لابد في هذه المرحلة من مضاعفة الجهود والعمل بشكل دؤوب على بناء قدرات الجهاز القضائي ليكون قادراً على التطور المستمر والأداء الفاعل بأعلى مستويات النزاهة والعدالة.
وإنطلاقاً من تطلعنا نحو إحياء عملية إصلاح وتطوير المنظومة القضائية اليمنية بغرض الارتقاء بالسلطة القضائية والوصول إلى قضاء متميز وتوفير بيئة مؤسسية عصرية للجهاز القضائي وأجهزته المساندة، فإننا نقترح إعداد خطة استراتيجية لعملية إصلاح وتطوير المنظومة القضائية اليمنية ترتكز على عدة عناصر ومحاور جوهرية أساسية تتمثل بالاتي:
١- ضرورة إعادة النظر في البرامج والمناهج التدريسية والتأهيلية في المعهد العالي للقضاء عبر لجنة مشكلة من قضاة وأكاديميين في الشأن القانوني والقضائي، والعمل على إيجاد منهجاً دراسياً وبرنامجاّ تأهيلياّ وافياً ومناسباً، على أن يشمل ذلك المنهج العلوم الإنسانية والنفسية لجعل مهنة القضاء متناغمة مع المجتمع، مع إعتماد معيار الجدارة والكفاءة في إختيار القضاة والعمل على تطوير معيار الكفاءة والجدارة بما يكفل رفد السلطة القضائية بالعناصر المؤهلة تأهيلاً قضائياً متميزاً.
٢- ضرورة الاستمرار في برامج تأهيل وتدريب القضاة وتمكينهم معرفياً لمواكبة أفضل الممارسات وإشاركهم في الدورات التدريبية والتطويرية بشكل مستمر، وإعتماد معيار الجدارة والكفاءة في تعيين القضاة ونقلهم وترفيعهم، مع مراعاة معيار التخصص القضائي عند نقل القضاة بحيث يكون نقل القضاة من ذوي الخبرة العملية في مجال القضاء التجاري في إطار المحاكم التجارية بينما يكون نقل القضاة من ذوي الخبرة في مجال القضاء المدني في إطار المحاكم المدنية وهكذا بما يكفل رفد السلطة القضائية بالعناصر القضائية المتخصصة.
٣- ضرورة الاهتمام بمنتسبي السلطة القضائية خاصةً القضاة بايجاد الحماية الأمنية الكافية لهم وتحسين مستواهم المعيشي بحسب الإمكانيات المتاحة بما يكفل تأمين احتياجاتهم ومتطلباتهم ويحفظ كرامتهم، مع ضرورة إجراء الأصلاحات المتعلقة بوزارة العدل في حدود الأمكانيات على أن تتسم تلك الأصلاحات بالفعالية والكفاءة والشفافية وإدخال الأصلاحات الهيكلية وإجراء الدراسات وتأهيل الموارد البشرية وتوفير الموارد المالية وتعزيز التواصل مع المواطنين.
٤- ضرورة الاهتمام بالبنية التحتية للمحاكم وتطويرها وتأهيل المرافق والمقرات القضائية بشكل يلبي طموح القضاء ويحفظ هيبته، مع التوسع بفتح محاكم جديدة في عدد من المحافظات بما يؤدي الى سعة رقعة العمل القضائي بهدف تحسين ظروف القضاء وتوسيع نطاق النفاذ للخدمات القضائية ذات الجودة العالية.
٥- ضرورة العمل على تحديث وتفعيل النظام الخاص بتقييم أداء الموظفيين الإداريين في السلطة القضائية والنظام الخاص بالشكاوى بهدف تعزيز بيئة الشفافية والمساءلة في عمل إدارة المحاكم، وضرورة تاهيل وتدريب موظفي السلطة القضائية كلاً بحسب طبيعة عمله بإجراء الدورات التدريبية وورش العمل لموظفي السلطة القضائية خاصةً فيما يخص التعامل مع تكنولوجيا المعلومات والأتصالات من أجل تسهيل اجراءات التقاضي وحفظ السجلات والأرشفة والتوثيق.
٦- ضرورة الاهتمام بسرعة تنفيذ الأحكام القضائية دون تأخير من خلال توفير قاضي خاص بالتنفيذ في المحاكم الكبيرة التي تحتاج لمثل ذلك مع توفير معاوني تنفيذ مؤهلين، مع الاهتمام بسير المرافق القضائية والتقنيات الحديثة في الخدمات القضائية وتحديث الإجراءات للارتقاء بعملية التقاضي وإنفاذ الأحكام بما يكفل تسهيل اجراءات التقاضي وتقصير آمد الخصومات وتخفيف أعباء أعمال المحاكم وتحسين أدائها وتطوير نظامها الاداري بالشكل الذي يحقق القضاء العاجل والعادل.
٧- ضرورة الاهتمام بالتفتيش القضائي وتعزيز قدراته والأرتقاء بأدائه ومعالجة الصعوبات التي تواجه مساره بما يطور ويعزز دور التفتيش القضائي في الرقابة على أداء المحاكم والأجهزة العاملة في الدوائر القضائية، وضرورة إعادة النظر في منهجية عمل التفتيش القضائي وتطويرها والارتقاء بها والعمل على رفع القيود غير المبررة التي تضعها لائحة التفتيش القضائي على الشكاوى المقدمة لدائرة التفتيش من أجل ضمان عدم عرقلة الشكاوى مع الاهتمام بإجراء عملية التقيم الذاتي للمؤسسات القضائية والتعرف على جوانب الضعف والقوة في أدائها، مع إشراك أعضاء في دائرة التفتيش القضائي من خارج السلك القضائي كقضاة سابقين مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة أو أكاديميين في الشأن القضائي.
٨-ضرورة حصر تعيين القضاة أعضاء مجلس القضائي الأعلى بطريق الانتخاب من نظرائهم، مع إشراك أعضاء في مجلس القضاء من خارج السلك القضائي من ذوي الخبرة والكفاءة في الشأن القضائي والقانوني المشهود لهم بالأمانة والنزاهة والاستقلالية والحياد، وعلى أن يتولى أعضاء المجلس بعد تسميتهم انتخاب رئيس المجلس بالاقتراع السري المباشر. وضرورة وضع معايير وضوابط موضوعية وشفافة فيما يتعلق بتشكيل اللجان والدوائر والوحدات التابعة لمجلس القضاء الأعلى وتحديد مهامها واختصاصاتها والعلاقة فيما بينها، مع ضرورة إعداد مجلس القضاء الأعلى تقارير دورية منتظمة خلال مدته على أن يُبين فيها الإجراءات التي اتخذت والإنجازات التي تحققت والتحديات التي تعترضه وسبل معالجتها على أن تنشر في الجريدة الرسمية.
٩- ضرورة وضع أُسس ومعايير واضحة وموضوعية ومهنية وشفافة فيما يتعلق بآليات تعيين القضاة وترقيتهم وندبهم ومساءلتهم، مع كفالة ضمان الشفافية في تعيين وعزل القضاة والاعتماد على معايير الكفاءة والاستقلالية والنزاهة في ترقية القضاة.
١٠- ضرورة مراجعة التشريعات المتعلقة بالسلطة القضائية وتعديلها بما يكفل تحقيق عملية الإصلاح والتطوير القضائي وبما يتناسب مع متطلبات العصر ويتماشى مع التطور الذي طرأ على كافة الأصعدة بحيث تراعى المستجدات دون إغفال الثوابت والخصوصيات، على أن يتم بالتعاون بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية إعداد مشروع تعديل تلك القوانين يكفل إقامة منظومة قضائية عادلة ومتطورة، على أن يتضمن ذلك التعديل وضع ضوابط وآليات قانونية واضحة ومحددة تحكم العلاقة بين السلطتين القضائية والتنفيذية ومؤسسات العدالة عموماً مبنية على الأداء المؤسسي والرقابة المتبادلة والمتوازنة ومبدأ الفصل المرن بين السلطات بما يكفل دعم وتثبيت استقلال القضاء والنهوض بقطاع العدالة.
١١- ضرورة تشكيل هيئة مستقلة بقرار رئاسي مشكلة من القضاة ورجال القانون والاكاديميين من ذوي الخبرة والكفاءة بالشأن القضائي المشهود لهم بالأمانة والنزاهة والاستقلالية والحياد، على أن تخول هذه الهيئة كامل الصلاحيات القانونية اللازمة لإعادة النظر في المنظومة القضائية بما يكفل ترتيب أوضاع القضاء والمحاكم والنيابات العامة ودراسة التعيينات والترقيات التي جرت في المناصب القضائية واتخاذ القرارات اللازمة والنافذة بهذا الخصوص بما يكفل تحري المهنية والاستقلالية وإرساء وتثبيت دعائم استقلال القضاء والنهوض بقطاع العدالة، مع ضمان توافر منهجية الاصلاح القضائي وعناصرها الأساسية التي ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالمجالات ذات الأولوية من أجل الوصول إلى الهدف المنشود وشمول عملية إصلاح منظومة العدالة كافة مهن القضاء”القضاء،المحاماة،التوثيق” في الشكل والموضوع.
١٢- ضرورة وجود لوائح مالية وإدارية خاصة بالسلطة القضائية تنسجم مع القانون الأساسي وقانون السلطة القضائية بما من شأنه الإسهام في دعم وتلبية احتياجاتها ومتطلباتها وتحقيق استقلاليتها والارتقاء بمستوى وجودة الأداء، مع ضرورة تجنب التمويل الخارجي المباشر للسلطة القضائية باعتبار ذلك يشكل تهديداً جدياً لاستقلال القضاء ويؤثر سلباً على هيبة وثقة المواطنين بمؤسسات العدالة.
١٣- ضرورة الاهتمام بتطوير المنظومة الإعلامية القضائية من خلال إقتناء التجهيزات الإعلامية الحديثة وإنشاء شبكة الكترونية للمؤسسات القضائية في اليمن من أجل تبادل الخبرات مع المؤسسات القضائية في العالم والخبراء وإجراء المؤتمرات والحوارات عبر هذه الشبكة، وضرورة نشر مبادئ الاحكام القضائية التي تصدرها المحاكم على قاعدة البيانات المنشورة عبر موقع السلطة القضائية وتحديثها دورياً، مع المساهمة في ترسيخ ثقة الجمهور بالمنظومة القضائية من خلال دمج الثقافة القانونية في الانظمة التعليمية وتوعية الجمهور بدور السلطة القضائية والتوعية بحقوق وواجبات المواطن في ظل دولة سيادة القانون.
والله ولي الهداية والتوفيق،،،،