حدث اغتيال شيرين أبوعاقلة لم يكن الأول من نوعه، عشرات من الصحافيين الفلسطينيين وغيرالفلسطينيين قتلتهم همجية قوات الاحتلال الإسرائيلي، تماما كما لم يكن العدوان الوحشي على جنازة تشييع الشهيدة “شيرين” هو الأخير، فقد لحقه اعتداء مماثل على جنازة الشهيد المقدسي وليد الشريف، والحبل لا يزال على الجرار الدموي.
وربما ما جعل رحيل شيرين الدامي أيقونة فلسطينية ملهمة، أن مقتلها العمدي بطلقات قناص إسرائيلى محترف، وبرصاصة دخلت من تحت الأذن لتحطيم الجمجمة، وبصورة تخطت عن قصد سترتها الواقية وخوذة الرأس، ومع المعرفة الكاملة بهويتها الصحافية المشهرة بوضوح على صدرها، إضافة إلى شهرتها كمراسلة تلفزيونية ارتبط عملها بوقائع الكفاح الفلسطيني اليومي، وكل ذلك جعل من شيرين هدفا مفضلا للإعدام، واستشهادها على الهواء، كسب لاسمها خلودا فلسطينيا وذيوعا عالميا، قد يكافئ معنى الصحوة الفلسطينية الجديدة، التي يبدي فيها الشعب الفلسطيني حيوية متدفقة، ويعيد النجوم إلى مداراتها الأصلية، ويوحد الساحات الفلسطينية على جبهة بسالة موحدة، لا تستثني الحضور الفلسطيني الباهر في الأراضي المحتلة زمن نكبة 1948، ولا تبقي الحواجز الوهمية بينه وبين شعب الأراضي المحتلة في عدوان 1967، وتجعل من “القدس” عاصمة ورأسا قائدة لكفاح الشعب الفلسطيني.
وهو تحول تراكمت مقدماته منذ أوقات الانتفاضتين الفلسطينيتين الأحدث، وإلى أن بدا ظاهرا في تمامه قبل عام مضى، حين نهضت القدس إلى قيامتها العفية، وأشعلت من روحها حرب “سيف القدس”، التي خاضتها مقاومة غزة باسم القدس قبل وبعد أي شي آخر، فقد خاضت “غزة” قبلها ثلاث حروب، لم تستطع فيها همجية جيش الاحتلال أن تحرز نصرا، رغم التفاوت الهائل في موازين القوة المسلحة لصالح العدو الإسرائيلي، لكن حرب “سيف القدس” مايو 2021، كانت ملحمة من نوع مختلف، وصاغت معادلة صدام جديدة، كانت فلسطين التاريخية بكاملها مسرحها، وتوحد نداء الدم والغضب الفلسطيني، من القدس إلى غزة إلى اللد وحيفا والنقب ومدن الضفة الغربية، وإلى سجون ما يقارب خمسة آلاف أسير فلسطيني، وتوالت مواكب الفداء بعد رشقات الصواريخ، وعادت الهوية الفلسطينية جامعة الوجع، وبدت “جنين” بإلهام القدس عاصمة للمقاومة الشعبية الجديدة، بموقعها الجغرافي المتداخل مع مروج وتجمعات الداخل المحتل منذ 1948، وبميراثها المقاوم الصابر المتحدي على مدى التاريخ، فبالقرب منها جرت معركة “عين جالوت”، التي قهرت الزحف المغولي وكتبت نهايته، وفي الانتفاضة الفلسطينية الثانية الأحدث، كانت معركة اقتحام الاحتلال لمدينة “جنين” وجوارها ومخيمها، أعنف الصدامات المسلحة وأشدها إنهاكا لجيش “شارون”، ومنها جاء أغلب الأسرى الستة الذين صنعوا ملحمة الهروب العبقري من سجن “جلبوع” الأكثر تحصينا، ومنها جاء أغلب أبطال العمليات الفدائية الأربع الأخيرة في قلب حواضر العدو، وعلى مشارفها، كان استشهاد شيرين أبو عاقلة بنت القدس، التي تحولت جنازتها في مدن الضفة إلى مشاهد جليلة حاشدة مهيبة، باتت عنوانا على صحوة وقيامة الشعب الفلسطيني، التي تطورت على نحو تلقائي فريد، يصنع إلهامه بالقدوة والجرأة والشجاعة، والثقة في المقدرة على اكتساب الحق الفلسطيني بالجملة، وهو ما صنع المعنى الجامع لجنازة شيرين في قلب القدس، التي تسابقت فيها أجراس الكنائس مع تكبيرات المساجد، واجتمعت فيها الآلاف المؤلفة من أجيال المقدسيين الفلسطينيين كافة، وبدت كأقوى رد سياسي على قرار واشنطن باعتبار القدس عاصمة موحدة لكيان الاحتلال، بينما بدت “القدس” يوم وداع شيرين على طبيعتها الأصلية النقية، وكعاصمة أزلية أبدية للفلسطينيين دون سواهم، وهو ما يفسر السلوك المنفلت الجنوني المصدوم لقوات الشرطة والاحتلال الإسرائيلي، ودوسهم الفظ الهمجي على أبسط قيم وأعراف وداع الموتى في ثقافات الدنيا كلها، فقد بدا وداع “شيرين” كتشييع لزعيمة سياسية وطنية، وبحضور كثيف لم يتوافر مثله لفلسطيني قبلها، ربما باستثناء جنازة الزعيم الفلسطيني الأشهر ياسر عرفات، وإلى حد ما جنازة الراحل فيصل الحسيني في القدس ذاتها، لكن جنازة شيرين بدت أبلغ تعبيرا، فقد جاءت في زمن الخذلان العربي والعالمي الرسمي لقضية فلسطين وقضية القدس، وفي وقت تردي أوضاع القيادات الفلسطينية نفسها، وفي ذروة التطبيع الفاجر والاستخذاء الخادم لكيان الاحتلال الإسرائيلي، وفي الليلة الظلماء بزغ بدر وداع شيرين الصحافية المسيحية، التي جمعت شعبا أغلبه من المسلمين.
الشعب الفلسطيني يستعيد وحدته العضوية الوطنية، ويتحدى الخذلان الخارجي ونوازع الفرقة، ويثبت أن بوسع الفلسطينيين وحدهم رد الاعتبار لقضيتهم العادلة
كان كيان الاحتلال يظن أنه يستطيع المراوغة، والسعي للخداع في قضية استشهاد شيرين، سواء بادعاء إجراء تحقيقات صورية، أو بالتلاعب على أوتار طائفية مريضة، تخدم العدوعلى نحو مباشر، كادعاء عدم جواز الترحم وطلب المغفرة الإلهية لروح شيرين، بدعوى أنها مسيحية، وأن صفة “الشهيد” مقصورة على المسلمين الأصوليين، مع وضوح تعارض الادعاء مع روح ومبادئ الإسلام الأصفى، ولم يكن ذلك عبثا ولا مصادفة جنوح بالرأي، بل كان ضلال تفشي وتقيح في حياتنا العربية الراهنة، لا يقيم وزنا للأوطان وحرمتها، ويعتبرها مجرد “حفنات من تراب عفن”، ولا يلقي بالا لاعتبارات وأولويات الوطنية الجامعة، ولا لمعاني الاستشهاد في سبيل تحرير الأوطان، ويتنطع في فهم الدين التوحيدي الخاتم، ويجعل من المتنطعين صنوا للمحتلين، يقتل أبناء وبنات الأمة بالسبي وقطع الرؤوس، ومن دون أن يطلق رصاصة على المحتلين، وهو ما تنكره الفطرة النقية لشعوب الأمة وللشعب الفلسطيني، التي رأت في شيرين كما سابقاتها ولاحقاتها، شهيدة للأمة والوطن والحق، ومن غير تنطع يتألى على الله وسلطانه، وعلى مصائر الجنة والنار التي يعلمها الله وحده، ولم يكن من شيء أشنع وأفظع من جرائم الاحتلال، سوى جرائم المتنطعين المريبين الفاسدين عقلا وروحا وعملا، وهم نتاج دمار شامل أصاب العقل والروح والحس الإنساني، وقبل عقود الانهيار العام، كان سماع شيء من ذلك يدخل في مقام الشذوذ، وفي رحلة الكفاح الفلسطيني المريرة الطويلة، كان سطوع نجم جورج حبش سابقا على ظهور ياسر عرفات، وحدث ذات مرة أوائل سبعينيات القرن العشرين، أن دخل رجل دين مسيحى مكتب حبش محتجا غاضبا مستنكرا، كان مجرمو الاحتلال الإسرائيلي وقتها، قد نفذوا عملية “فردان” في بيروت، وراح ضحية الغدر ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية الكبار، وهم محمد يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر (واسمه بالكامل كمال بطرس إبراهيم يعقوب ناصر)، وكان القس مغتاظا من دفن كمال ناصر “المسيحي” مع رفيقيه المسلمين في المكان ذاته، وكان رد حبش بليغا، فالمقاومون يعيشون معا ويستشهدون معا ويبقون أحياء معا في مقابر الشهداء، وقتها خرج رجل الدين ضيق الأفق مطرودا من مكتب جورج حبش، وكان وديع حداد رفيق حبش يراقب ما جرى في صمت مندهش، فلم يكن وقتها من مكان للتفكير الطائفي المتنطع المنغلق، وكان النزوع الطائفي غريبا على فطرة الوطنية الجامعة، لكن الشذوذ الديني والخلقي صار فطرة المتنطعين اليوم، وهم يعملون في خدمة الاحتلال الإسرائيلي، بالقصد أو بدونه، وحطموا أوطانا في المشرق العربي بالتعصب والتنطع الديني والطائفي، ويريدون تلويث وتفتيت وحدة كفاح الشعب الفلسطيني اليوم، عبر تشويه صورة شيرين الفلسطينية لحما ودما، والامتداد الحي لسيرة مئات المقاومين الفلسطينيين المسيحيين دينا، ورموزهم الأبرز من حبش إلى المطران كابوجي والمطران عطا الله حنا وغيرهم، وكلهم جمعتهم فلسطين ومحنتها، كما تجمع المدينة القديمة في القدس بين كنيسة القيامة والمسجد الأقصى، ومسيحية شيرين تضيف وهجا إلى رمزيتها الوطنية، ولا تأخذ منها كما يتصور المتنطعون، وهم يشبهون متعصبة صهيونية استهانت بجريمة قتل شيرين، فوصفها أحمد الطيبي في “الكنيست بأنها “حثالة البشر”.
ويبقى أن ذكرى النكبة الرابعة والسبعين هذه المرة، قد ارتبطت برمزية استشهاد شيرين أبو عاقلة بالذات، فالشعب الفلسطيني يستعيد وحدته العضوية الوطنية، ويتحدى الخذلان الخارجي ونوازع الفرقة الجغرافية والسياسية، ويثبت بأكثر الصور سطوعا، أن بوسع الفلسطينيين وحدهم رد الاعتبار لقضيتهم العادلة، التي تكتسب تأييدا شعبيا عالميا متزايدا، وبأكثر من أي وقت مضى في العقود الخمسة الأخيرة، فقد صار عدد الفلسطينيين وحدهم أكبر من عدد اليهود في العالم كله، عددهم اليوم 14 مليونا، نصفهم على أرض فلسطين التاريخية، وبحضور راسخ يتفوق باطراد على عدد اليهود الصهاينة المجلوبين للاستيطان، وهذا في ما نظن، هو الجذر الثابت للتحول الجاري اليوم في الأراضي المقدسة المحتلة، وليس له من مصير على مدى عقدين مقبلين، إلا أن تنتهي “إسرائيل” التي نعرفها، وأن تبزغ شمس فلسطين التي نريدها.
*كاتب مصري