حسن داوود*
حول كل شيء يجري الحوار بين المحقّق والمتهم بجريمة القتل. لا يتعلٌق ذلك بالجريمة نفسها وحول إن كان المتهّم هو مرتكبها، بل بمسائل أخرى مثل هل هي صدفة أن يلتقي صديقان تحوّلا إلى عدّوين قبل ساعة أو ساعتين من سقوط أحدهما عن حافّة الجبل؟ الحوار بين المحقّق والمتّهم يتطرّق أيضا إلى معنى الثأر، ومعنى العدالة، ومسؤولية الفرد الحزبي عن فعل لم يشارك شخصيا فيه، كما عن الحدّ الذي يتيح انتهاك خصوصية المتهم في التحقيق. «مع القاضي أخوض مناظرة أكثر مما أخضع لاستجواب» يكتب المتهم إلى محبوبته، التي لا نعرف اسما لها ولا جزءا من سيرة، ولا أوصافا لشكلها ولا ذكرا لفعل قامت به. كأنها فكرة أكثر مما هي امرأة. كأنها وجود صنعه الوهم وراح يجدّد صنعه مع كل رسالة يخطّها ذاك السجين في حجرته الانفرادية، ثم، للتأكيد على احتمال كونها وهماً، لم تجب تلك المرأة على أيّ من رسائله، بل لم يرد ذكرعلى كونها قد قرأتها، أو حتى تلقّت أيّا منها.
وإلى ذلك نرى أن محبوبها، السجين، بعد الإفراج عنه، لم يهرع إلى الالتقاء بها، بل تناول الغداء مع محقّقه ليستأنف بعد ذلك، بينه وبين نفسه، استعادة السجال الذي كان دائرا بينهما على مدار تلك الأسابيع.
هو يخطّ الرسائل لأنه يحتاج إلى أحد ما يكتب له، ليس عن العيش في زنزانته فقط، بل عن الغرام الذي يبطل أثر ضيق تلك الزنزانة وإطباقها. هو هنا أكثر تواصلا مع حبيبته مما لو كان حرّا في الخارج: «يهمّني وجودنا معا في اللحظات نفسها من اليوم أكثر من وجودنا في المكان عينه». لكن ما يحتاج إلى إيصاله، وما يستمر في الإلحاح على قوله، هو التعليق على ما جرى في كل جلسة مع المحقق. ما سوى ذلك ليس إلا مقدّمات أو ممهدّات لفاصل جديد من الرواية، هكذا يبدأ إحدى رسائله: «محبوبتي، ها أنا أعود إلى إلفة الأمتار القليلة الموصد عليها بالمفاتيح» ثم، بعد أن يكتب، مختصرا، أنه يعلم أنها تمطر في الخارج من اندفاع الماء في أنابيب الصرف، يسرع إلى التعليق عما جرى في تلك الجلسة الأخيرة: «لقد أراد انتزاع اعتراف مني يؤكد له ما يظنّ أنه يعرفه حقا».
أما ما يبقي السجال قائما بين طرفيه فيرجع، حسب ما يقول المتهم، إلى أن الآخر، المحقّق، لا يملك أيّ دليل على تورّط السجين. إنه يبدأ من عدم تصديقه أنه التقى ضحيته بمحض الصدفة في ذلك النهار. كيف يمكن لتلك الصدفة أن تتحقق بين رجلين في ذلك الخلاء الجبلي الوعر، وذلك بعد انقضاء عشرين أو ثلاثين سنة على انفصالهما متعاديين. حسب المحقّق، لم يكن لذلك اللقاء أن يحصل دون تخطيط مسبق، وهذا ما لم يستطع إثباته أو انتزاعه من الرجل الجالس قبالته، بل إن هذا الأخير بدا، مع كل محاورة، يكسب جولات متتالية على مَن يفترض به أن يكون في موقع القويّ. لا يعرف المحقّق شيئا عن موقع الجريمة وجغرافيّتها، ولا عن رياضة التسلّق التي كان يمارسها الرجلان، القاتل والقتيل. كما لا يعرف معلومات كافية عما جرى في سنوات الثورة، تلك التي أفشى فيها القتيل أسرارا عن حزبه، وحزب قاتله المفترض. كما أنه، هو المحقّق، أصغر عمرا وأضأل تجربة من محاوره السجين.
ما يضع المحقّق في مرتبة بطولة أدنى، في بناء الرواية، كونه غير متسلّح بشيء غير القانون الذي درسه مخلصا له. غالبا ما بدا مثل تلميذ في حضرة أستاذه، ما كان يهدّد على الدوام بانقلاب الأدوار بينهما. هو، المحقّق، شخصية ثانوية هنا، رغم أنه هو من يسأل وهو من ينتظر الإجابة. لكن في كل ما يجيب به ذاك الآخر، المتهم، تجاوز للجواب المنتظر العادي. كل كلمة يقولها، كل جملة، تبدو خارجة من تجربة شخصية أتاحتها مراحل عيشه المتعددة. في رسائله إلى محبوبته، التي هي بمثابة تعليق إضافي على جلسات التحقيق، يكتب معلّقا على صغر سنّ المحقّق، معتبرا ذلك من نقائصه.
رواية إريك دي لوكا انتصار للكبار، أولئك الذين عبروا تجارب معقّدة صنعت منهم أبطالا. إنهم كاسرو الترتيب الوظيفي لمكانات الرجال، والخارجون عن السياقات التي تقيّد هؤلاء الرجال في الأدوار التي على الأغلب سعوا جاهدين إلى احتلالها. المتّهم في جريمة الجبل تلك، الثوري القديم، ما زال محافظا على صفته تلك، لكن مصقلا إياها بالتجربة التي أتاحها له خروجه المستمر على العادي والمتّفق عليه. يقول إن الهدف الأسمى للسلطة هو « بلوغ أعلى درجات فقدان الكفاءة أرى أن المجتمع أشبه ببناء، كلما اقتربنا من قمّته، ساءت المواد المصنوع منها».
لكنه خروج إلى الأصل وليس خروجا عليه. فلسفته ليست ناتجة عن طفرات يطلقها المزاج، بل هي سعي إلى إعادة العالم إلى النصاب الصحيح، بدءا من اللغة: «أتحدث عن تعريف كلمة. إستخدامك لكلمة ضحية بطريقة غير دقيقة لا يعني أنك تكذب، بل أنك تخطئ (من خطيئة)».
رواية إرّي دي لوكا «المستحيل» نقلها عن الإيطالية رامي طويل لدار الساقي في 158 صفحة – 2021.
- كاتب لبناني