نص المحاضرة الرمضانية العاشرة لقائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443 هـ 2022م:
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
تحدثنا بالأمس عن الصبر، وعن علاقته بتحقيق التقوى، وعن أهميته الكبيرة في ذلك، وفي القيام بالأعمال الصالحة، والأعمال العظيمة والمهمة، كما هو أيضاً- في نفس الوقت- حالةٌ واقعيةٌ قائمةٌ في الواقع البشري، ترتبط بكل أنشطة الحياة، واهتمامات الناس في مختلف ظروف حياتهم، واهتماماتهم المعيشية… وغيرها، هو عاملٌ أساسيٌ من عوامل النجاح في النهوض بالأعمال، وهو مسألة مستساغةٌ في ذلك، بقدر ما يتفاعل الناس مع الأمور التي يتحركون فيها، في المجالات التي ينطلقون فيها.
وتتزايد أهمية الصبر في الجوانب الإيمانية والعملية، مع أهميته في الالتزام الإيماني بشكلٍ عام، على المستوى السلوكي، على المستوى الأخلاقي، على المستوى الروحي، على مستوى الالتزام بالعبادات… في مختلف المجالات ذات الصلة بالالتزام الإيماني، ولكن له علاقةٌ كبيرةٌ جدًّا فيما يتعلق بالمسؤوليات الكبرى، والنهوض بها، حيث لابدَّ منه، ويعتبر أساسياً إلى حدٍ كبيرٍ في ذلك.
ولذلك في مراحل الصراع ما بين الأمة وبين أعداء الله وأعدائها، والأمة تسعى من خلال المؤمنين فيها، والصالحين من أبنائها، إلى أن تتحرر من هيمنة أعداء الله، وأعداء الإنسانية، وأن تحقق لنفسها الاستقلال على أساسٍ من انتمائها الإيماني، وهويتها الدينية الإسلامية، فالأمة تواجه الصعوبات، وتواجه التحديات، وتواجه المخاطر في سبيل النهوض بهذه المسؤولية، وهذا شيءٌ بديهيٌ واعتياديٌ في ظروف الأمم، في اهتماماتها التي هي من هذا القبيل، فأي أمةٍ تسعى إلى التحرر من أعدائها؛ ستواجه في سبيل تحقيق ذلك الصعوبات والتحديات، التي لا بدَّ فيها من الصبر، لذلك لا بدَّ من العناية بالتواصي بالصبر، وهذا مما ركَّز عليه القرآن الكريم، وجعله واحداً من العناصر الأساسية والمواصفات المهمة للمؤمنين، وأيضاً من العوامل المهمة للنجاح والفلاح والفوز، فأتى الحديث عن ذلك في سورة العصر، ضمن المواصفات الأساسية لمن استثناهم الله “سبحانه وتعالى” من الخسران، عندما قال “جلَّ شأنه”: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر: 1-3].
كذلك أتى ضمن المواصفات المهمة للمؤمنين، في اهتماماتهم الإنسانية، في رحمتهم بالفقراء والمستضعفين: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد: الآية17]، فالتواصي بالصبر لا بدَّ منه أن يكون ضمن الاهتمامات التثقيفية والتوعوية والتذكيرية، وضمن الاهتمامات الإعلامية بشكلٍ عام، في أوساط الأمة، في وسط المجتمع المسلم، الذي يجاهد، ويضحي، وينهض بمسؤولياته العظيمة والمقدسة؛ لأن في المقابل هناك نشاطٌ معاكسٌ لذلك، نشاطٌ للمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، والمخذولين المفرِّطين في القيام بالمسؤولية، يتجه نحو تثبيط الهمم، وكسر العزائم، يتجه نحو زرع حالة الوهن واليأس في أوساط الأمة، وترسيخ حالة الضعف، والدفع بالأمة دائماً نحو الاستسلام، والتشجيع المستمر على التنصل عن المسؤوليات العظيمة والمقدسة، التي هي من أهم التزاماتنا الإيمانية والدينية، التي يحاسبنا الله “سبحانه وتعالى” عليها يوم القيامة، فلهم اتجاهات مخالفةٌ للقرآن الكريم، مخالفةٌ لما فيه المصلحة الحقيقية للأمة، وبالذات عندما تمر الأمة، أو يمر شعبٌ معين- مثلما هو حال شعبنا- بظروف عصيبة، نتيجةً لما يقوم به الأعداء، من جرائم، من حصار، من ظلم، من طغيان، يسعون من خلال ذلك إلى كسر إرادة شعبنا، وكسر إرادة أمتنا، والدفع به نحو الانهيار والاستسلام، فيتحرك بالتزامن مع ذلك المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والمخذولون، المتنصلون عن المسؤولية، المفرطون في القيام بمهامهم، ومسؤولياتهم، وواجباتهم، التي هي من صميم دينهم، يتحركون بالاستغلال لذلك بالدفع بالأمة، بالدفع بالشعب، إلى ردة فعلٍ خاطئة، ردة فعل تكون عبارةً عن حالة انهيار، استسلام، خضوع للعدو، تنفيذ لأجندة العدو ومؤامرات العدو، التحرك وفق ما يريد العدو، وهذه حالة سلبية وليست جديدة، هذه حالة قائمة على مرِّ التاريخ، يواجهها القرآن الكريم، يقدم التعليمات اللازمة في التصدي لها.
ومن ضمن ذلك: الحث على التواصي بالصبر، التواصي بالصبر، لمواجهة مثل هذه الحالات التي تتحرك سلباً في الساحة، وأيضاً لمواجهة التأثيرات الناتجة عن ضعف الإيمان على البعض من الناس، الذين يملّون، يتعبون، يرهقون، يتذمرون، عندما تكون هناك صعوبات، وتحديات، ومعاناة، فلا يكادون يتحملون، أو سقف تحملهم سقفٌ نازلٌ، هابط، إلى مستوى بسيط، ثم لا يتحملون أكثر.
فيأتي التواصي بالصبر، فله باعتبار أهميته الكبيرة فيما له من تأثيرٍ إيجابيٍ يساعد الأمة على الاستمرارية في النهوض بمهامها، في أداء مسؤولياتها، في أداء واجباتها، في تحمل الصعوبات مع ذلك، حتى الوصول إلى النتيجة، حتى الوصول إلى النتيجة.
فعندما نأتي إلى التواصي بالصبر، نُذكِّر بأهميته، وقيمته، أهميته على المستوى الإيماني، أنه من أعظم العبادات والقرب، التي نتعبد لله بها، نتقرب إلى الله “سبحانه وتعالى” بها، نحظى من خلالها بالدرجات العالية، عندما نصبر في طاعة الله، عندما نصبر ونحن نقوم بمسؤولياتنا ومهامنا الإيمانية التي أمرنا الله بها، وجَّهنا إليها، نصبر ونجاهد، نصبر ونضحي، نصبر ونتصدى للطاغوت، نتصدى للطغاة والظالمين والمجرمين، نقف في وجه المعتدين، صبرٌ عمليٌ، صبرٌ في أداء مسؤولياتنا، ومهامنا، وواجباتنا، صبر الأحرار، صبر المؤمنين، صبر المجاهدين، صبر المتقين، عبادةٌ عظيمة نتقرب بها إلى الله “سبحانه وتعالى، وسببٌ لنيل مرضاته، ومعونته، وتأييده، ويرتبط بذلك الغايات العظيمة، التي تحدثنا عن الكثير منها بالأمس.
ولهذا يتوجه الأمر بالصبر إلى الجميع، إلى الذين آمنوا رجالاً ونساءً، إلى الأسرة، إلى الفرد، يتوجه الأمر بالصبر إلى القادة، إلى غيرهم، إلى كل المؤمنين، إلى كل الذين ينهضون للتحرك بالمسؤولية.
وفي القرآن الكريم نجد كم توجه من الأوامر بالصبر للرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” مع عظيم منزلته عند الله، الله “سبحانه وتعالى” بالتأكيد لا يريد لنبيه هكذا أن يعاني لمجرد المعاناة، وأن يتعب لمجرد التعب، وأن يواجه الصعوبات الكبيرة، والتحديات الكبيرة هكذا بشكلٍ مجرد، ويصبر عليها هكذا فقط؛ إنما لأن الصبر له قيمته، له إيجابياته الكبيرة على المستوى التربوي، في بناء الإنسان، في بناء نفسية الإنسان، في بناء أخلاق الإنسان، وعلى مستوى الواقع، فيه ما يترتب عليه من نتائج مهمة، وعلى مستوى تحقيق الأعمال الكبيرة، التي هي أعمال عظيمة، يُشرِّف الإنسان أن يقوم بها، أن ينفِّذها، هو شرفٌ له، سموٌ له، يزيد من رصيده الأخلاقي والإيماني، ومن إسهامه الكبير في واقع الحياة، فيترتب على ذلك النتائج الكبيرة، التي هي لمصلحة الإنسان نفسه في الدنيا والآخرة، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى: الآية17].
فيأتي الأمر للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله” من مثل قوله “سبحانه وتعالى”: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[هود: من الآية115]، اصبر، ولن يضيع أجرك، أنت ستتحقق لك بذلك النتائج العظيمة، التي هي من الله “سبحانه وتعالى” يحققها لك، {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، وهكذا صبر، صبر في كل مراحل تبليغ الرسالة، منذ البداية، والوضع مختلفٌ تماماً، ليس له جيش، ولا أنصار، ولا أعوان، والمؤمنون به قلة قليلة في البداية، والمتغيرات التي يراد منه العمل والإسهام في تحقيقها، حجمها كبيرٌ جدًّا، الواقع واقعٌ مختلف، واقعٌ معادٍ، بيئةٌ كافرة، معاديةٌ للرسالة، وصبر في كل المراحل التي تحرك فيها، أتت المتغيرات شيئاً فشيئاً فشيئاً؛ حتى تغيَّر الواقع بكله، وسقطت كل كيانات الطاغوت، وقام للإسلام قائمة، وأصبح للأمة الإسلامية كيانها الكبير والعظيم، الذي ارتقت به إلى أن وصلت إلى أهم كيانٍ قائمٍ في واقع البشر آنذاك، وأهم كيانٍ فاعلٍ في الساحة، أمة قوية، ودولة عظيمة، ومجتمع عظيم وكبير ومهم، أصبح له حضوره الأول في الساحة العالمية بين أوساط الأمم، وتأثيره الكبير، هذا في عاجل الدنيا؛ أمَّا في آجل الآخرة فالذي يتحقق هو الشيء العظيم من فضل الله، وجنته، ورضوانه، والسلامة من عذابه.
إضافة إلى الإنجازات الحقيقية الكبيرة في حركته “صلوات الله عليه وعلى آله”، مما أحدثه من تغييرٍ جذريٍ في واقع المجتمع، فأخرجه من الظلمات، في عقائده الباطلة، في تصوراته الخاطئة، في خرافاته الجاهلية، وفي ممارساته الوحشية واللا إنسانية، وسلوكياته المنحرفة، إلى النور، أخرج المجتمع الجاهلي من كل ذلك، من الظلمات في العقائد، والأعمال، والتصرفات، والسلوكيات، إلى النور، إلى واقعٍ مختلفٍ تماماً، كان هناك نتائج عظيمة تحققت، فيما كان الله يقول له: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}[المعارج: الآية5]، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[الأحقاف: من الآية35]، وهو يواجه التكذيب، والصد، والمعاناة الكبيرة، في البداية من الكافرين، وفيما بعد من الكافرين، والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، ومن السمَّاعين لهم، ولكن تخطى كل تلك التحديات والصعوبات ووصل إلى نتيجة.
من أهم ما يتعلق بالصبر: أنه إلى جانب أنه عبادةٌ عظيمةٌ، لها نتيجتها، لها آثارها الكبرى، أنه سلاحٌ مهمٌ في مواجهة العدو؛ لأن ما يلجأ إليه العدو في محاربته للمؤمنين: من حصار، من تضييق، من جبروت، من إجرام، من وحشية، هو بهدف النيل منهم، والإضعاف لهم، وضرب إرادتهم ومعنوياتهم، وإرغامهم على الاستسلام، وتحطيم معنوياتهم.
العدو يحرص على كسر الإرادة، على تحطيم المعنويات، على الإرغام للأمة على الاستسلام، على زرع حالة اليأس، على الوصول بها إلى الانهيار التام، هذا ما يسعى له العدو، فعندما يرى أنَّ ما يفعله من إجرامه، ووحشيته، وفظائعه، وانتهاكاته، وعدوانه، وحصاره، له ردة فعلٍ عكسية، هو يزيد من اهتمام الأمة، من عزمها، من قوتها، من إصرارها، من تصميمها، من جديتها في مواقفها، من استشعارها لحجم مسؤولياتها، من غضبها على عدوها، وترجمة ذلك الغضب في الواقع العملي، من خلال الجدية الكبيرة في عملها وهي تتصدى للعدو، في تحركها وهي تواجه العدو، سيكون لذلك الأهمية الكبيرة التي يترتب عليها يأس العدو، يأس العدو، فما يكون هناك من صبر، من ثبات، من قوة، من ردة الفعل الواعية في واقع الأمة تجاه العدو، يقابله هبوط لدى العدو، يأس، شعورٌ بالفشل، شعورٌ بالإخفاق، شعورٌ بالعجز، يصل به- في نهاية المطاف- إلى الاستسلام.
وهذا ما حصل على مرِّ التاريخ، في التجارب القائمة في واقع البشر، كما أشرنا في حركة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وحركة المسلمين معه، وما ترتب على ذلك من متغيرات كبرى، في الأخير كان من يئس، من انهار، من تفككت قواه، هم المشركون، هم الكافرون، هم المعادون للرسالة، ومن أحُبِط، وفَشِل، وأخَفْقَ، وانهَزم، ولم يحقق أهدافه الرئيسية، هم المنافقون معهم أيضاً، والذين في قلوبهم مرض.
في واقعنا المعاصر نرى الأمثلة الكثيرة، مثلاً: فيما يتعلق بحزب الله في لبنان والصراع مع العدو الإسرائيلي، صراع استمر لسنوات طويلة، وكان العدو الإسرائيلي كان يحاول أن يكسر إرادة المجاهدين في لبنان، أن يكسر إرادتهم، وأن يوهن من عزمهم، وأن يوصل المجتمع إلى حالة اليأس في إمكانية الانتصار في مواجهة العدو، فكان يقوم بحملات إجرامية، ووحشية، واعتداءات كبيرة، وجرائم فظيعة، ولكنهم استمروا في جهادهم، وصبروا على كل المعاناة، في نهاية المطاف كانوا يزدادون قوةً، وكان العدو يضعف أكثر فأكثر، كان يحصد المزيد من الهزائم، وكان بالتالي ييأس أكثر فأكثر، حتى وصل إلى يأسٍ تام وانسحب، في هزيمةٍ مذلةٍ تاريخية، كانت هي الأولى بذلك المستوى، وهزيمة استمرت، استمرت إلى حد الآن، هزيمة مستمرة في واقع العدو الإسرائيلي.
عندما نأتي إلى الحالة القائمة فيما يتعلق بشعبنا اليمني المسلم العزيز، وهو يتصدى للعدوان الأمريكي السعودي، منذ بداية العدوان وإلى اليوم حصلت الكثير من المتغيرات، فيما كان لدى الأعداء آمال في أن يسيطروا بشكلٍ تام في فترةٍ وجيزة، بالاستناد إلى إمكانياتهم الهائلة، إلى جبروتهم، وطغيانهم، وحصارهم، وظلمهم، وصلوا اليوم إلى نقطةٍ مسدودة، وصلوا إلى مستوى الفشل الذي عرف به كل العالم، الذي يتحدث عنه الجميع، ما من شكٍ في أنهم قد فشلوا إلى الآن في تحقيق أهدافهم الرئيسية التي أرادوها من خلال العدوان، وأنهم تكبَّدوا الكثير من الخسائر، وأنهم أيضاً تكبَّدوا الكثير من الهزائم تلو الهزائم، وأنَّ شعبنا قد حقق الكثير والكثير والكثير من الانتصارات، وبات هذا العدوان فيما فيه من حصار، وإجرام، ومعاناة، حافزاً مهماً لشعبنا في أن يبني واقعه، وأن يحوِّل التحدي إلى فرصة، وأن يجعل من ذلك عاملاً لنهضته في كل المجالات، ولكن ذلك بكله يحتاج إلى صبر.
لمَّا كان الصبر سلاحاً في مواجهة العدو، أتى قول الله “سبحانه وتعالى”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا}[آل عمران: من الآية200]، المصابرة أكثر من مسألة: {اصْبِرُوا}، {وَصَابِرُوا}؛ لأنه سلاح في مواجهة العدو، إذا أصرَّ العدو واستمر على وسائله الإجرامية الوحشية، على سعيه لإضعافكم، للسيطرة عليكم، كونوا أكثر إصراراً منه، أكثر اهتماماً منه، أكثر جديةً منه، في الثبات في موقفكم الحق، في التمسك بقضيتكم العادلة، في أدائكم لمسؤولياتكم المقدَّسة، {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران: من الآية200]، فالعدو يرى في الأخير أنَّ وسائله وأساليبه ليست مجدية، وأنَّ ردة الفعل هي عكس ما يريده، هو يريدهم أن ينهاروا، أن ييأسوا، أن تنكسر إرادتهم، فإذا بهم أكثر عزماً، أكثر تصميماً، أكثر قوةً وجديةً في اهتمامهم وعملهم.
أتى في القرآن الكريم قول الله “سبحانه وتعالى”: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: الآية146]، هذا درسٌ مهمٌ وعظيمٌ قدَّمه الله “سبحانه وتعالى” لنا من المؤمنين الذين وقفوا مع الأنبياء، نصروا الأنبياء، جاهدوا مع الأنبياء، الذين تحمَّلوا هذه المسؤولية المقدَّسة، ونهضوا بهذا الدور العظيم في الواقع البشري، وأنَّ الكثير منهم، يعني: كحالة ليست مجرد حالة نادرة، أو حالة استثنائية، حالة تكررت كثيراً على مرِّ التاريخ؛ حتى لا يتصور البعض أنَّ هذا مطلوبٌ منا لوحدنا، أو أنه حِمْلٌ بلينا به عن سائر الناس، أو عن السائر المؤمنين، لا، المسألة مختلفة، {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ}، يعني: حالة تكررت كثيراً، كم وكم وكم {مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، أيضاً ليست حالة نادرة على المستوى الشخصي، مثلاً: لا يتهيَّأ لها، لا يتمكَّن منها، لا يمكن أن تتوفر إلَّا لدى القليل القليل القليل من الناس، الصبر مسألة ممكنة من الجميع، وإن تفاوتت نسبة الصبر، وإن تفاوتت، لكنها مسألة ممكنة.
الله هيَّأ الإنسان في فطرته، في قدراته، في طاقته لذلك، والله يزيد الذين آمنوا، الذين يلتجئون إليه، يستعينون به، يزيدهم على مستوى الدعم النفسي بالسكينة، بشرح الصدر، بالعوامل التي تساعد من تحملهم أكثر فأكثر.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}، عندما أصابهم ما أصابهم في سبيل الله، قدَّموا الكثير من الشهداء، جُرِح الكثير منهم، حصلت لهم المعاناة في الميدان (في ميدان الصراع)، المعاناة المتنوعة، المعاناة المتنوعة: على المستوى الاقتصادي، على المستوى العسكري… من جوانب كثيرة، لم يصبهم ذلك بالوهن، لم تأت النتائج التي يريدها العدو، يسعى لها العدو، الوهن: عكس الصلابة، فتحصل لديهم حالة من الفتور، من الجمود في التفاعل في أداء مسؤولياتهم، فلا يتحركون إلَّا بتثاقل، وبنفوس لم تعد بذلك العزم، بتلك القوة، بتلك الإرادة الفولاذية، أصبحوا يتحركون بفتور، أثَّر عليهم ما حصل عليهم.
{فَمَا وَهَنُوا}، لم يهنوا، استمرت صلابتهم، عزمهم القوي استمر، ثباتهم، جديتهم، كل ذلك استمر، {لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا}، لم يصلوا إلى ما هو أكثر من الوهن، وهو الضعف مثلاً أن يصلوا إلى حالة الضعف، فيفقدون الشعور بالقوة، الناتج عن اعتدادهم بمعية الله، عن إيمانهم بقضيتهم الحق، عمَّا يحملونه من القيم والأخلاق الإيمانية.
{وَمَا اسْتَكَانُوا}، {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}، لم يستكينوا، بقوا في حالةٍ من العزة، من الكرامة، لم تنهر عزائمهم إلى حد أن يستكينوا، فيتنصَّلوا عن المسؤولية، فيجمدوا بشكلٍ تام، استمروا وواصلوا نهوضهم بمسؤولياتهم، وأداءهم لواجباتهم.
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}؛ لأنهم صبروا، بدلاً عن الوهن، بدلاً عن الضعف، بدلاً عن الاستكانة، صبروا، فكان الصبر وسيلة مساعدة لاستمراريتهم.
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: الآية147]؛ لأن الناس عندما يحصل لهم الوهن، والضعف، والاستكانة، أيٌّ منها، أو بكلها، تكون لهم أقوال تعبِّر عن التذمر، أقوال تعبِّر عن اليأس، أقوال تقدِّم التبريرات الواهية لتنصِّلهم عن مسؤولياتهم، تقدِّم حالة الفشل وكأنها حالة لازمة، وحالة لا مناص منها، أقوال سلبية تخدم العدو، تشجِّع العدو، ترفع من معنويات العدو.
أمَّا الربَّانيون، المؤمنون، المخلصون لله “سبحانه وتعالى”، فمقولاتهم مقولات التجاء إلى الله، استشعار للتقصير أكثر، اهتمام وجدية أكثر، اتجاه إلى الواقع العملي لمعالجة جوانب القصور فيه والخلل أكثر فأكثر، استمرارية وجدية مع الالتجاء إلى الله، وإصلاح الواقع العملي بكل اهتمام، وهذا هو التصرف الصحيح، هو التصرف الصحيح، هو الموقف الصحيح.
في الواقع البشري لا تنهض الأمم، ولا تواجه التحديات، ولا تتحرك في إطار المهام الكبرى، إلَّا وتستند إلى الصبر، لا بدَّ من الصبر، حتى الجيوش في بنائها لتكون جيوشاً قوية، الأساس في ذلك هو الصبر، لا بدَّ من الصبر، وحتى في داخل الجيوش، من لهم مهام خاصة، مهام استثنائية، يحظون بتمرينٍ كبير على الصبر، على التحمل الذي يقترن به أداء مهام وأعمال عظيمة، كبيرة، نوعية، مهمة، ذات تأثير كبير؛ لأنه كلما أردنا أن يكون هناك فاعلية أكثر، فاعلية في العمل، فاعلية في الأداء، في مستوى الأداء، لا بدَّ من الصبر أكثر.
من أهم ما يتم التذكير به في التواصي بالصبر، هو الحديث عن عاقبة الصبر الحسنة، وأنَّ من أهم ما يميِّز الصبر في سبيل الله “سبحانه وتعالى”: أن نتيجته الإيجابية، ثمرته الطيِّبة، عاقبته الحسنة حتمية؛ لأنها ارتبطت بوعد الله “سبحانه وتعالى” الذي لا يخلف وعده، وهو الصبر المجدي، الصبر في سبيل الله، الصبر في القيام بالمهام والمسؤوليات الكبرى هو الصبر المجدي، المثمر، النافع، المفيد.
وإذا جئنا إلى هذا، فنجد في القرآن الكريم التأكيد على البشارة: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة: من الآية155]، هكذا يقول الله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، بشِّرهم بهذه العاقبة الحسنة، بهذه الثمرة الطيِّبة؛ لأنهم سيصلون من خلال صبرهم إلى النصر، إلى الفرج، إلى الخير الكبير، إلى تحقيق النتائج المهمة التي يسعون للوصول إليها، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} بشِّرهم أيضاً بأنه سيأتي لهم حتى وهم يعانون، حتى وهم يواجهون الصعوبات والتحديات، المؤشرات والانفراجات التي هي بشارةٌ لهم، التي هي مقدِّماتٌ لنصرهم الكبير، لفرجهم العظيم، وهذا فعلاً مما يأتي، لا تبقى الحالة دائماً حالةٌ صعبة، وقاسية، وقاتمة اللون، وشديدة، تحصل انفراجات، تحصل مقدِّمات، هي بحد ذاتها بشائر، هي بحد ذاتها بشائر، تحصل انتصارات وانفراجات تبشِّر بما سيأتي من نصرٍ عظيم، من فرجٍ كبير، من متغيرات.
حتى في الشدائد على المستوى الاقتصادي تحصل انفراجات، لا تبقى الشدة كما هي في أقسى حالاتها على نحوٍ مستمر، تأتي انفراجات، وانفراجات، وانفراجات، حتى يأتي الفرج الكبير، ويترافق مع العسر اليسر، كما قال الله “سبحانه وتعالى”: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح: الآية5]، يأتي اليسر، فتأتي انفراجات من هنا، إيجابيات من هنا، عوامل مساعدة من هناك… وهكذا لا يبقى العسر بشكلٍ خالصٍ، مستمرٍ، ضاغطٍ، والعناء شديدٌ بشكلٍ مستمر، تأتي حالة اليسر لتترافق مع العسر، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح: 5-6]، وتتحقق إيجابيات مع ما يحصل.
فالغايات المذكورة في القرآن الكريم للصبر، هي غايات عظيمة، غايات كبيرة، جمعتها عبارة واحدة: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، الفلاح، الفلاح الذي هو وصول إلى النتائج العظيمة، ظفرٌ بالخير، وصولٌ إلى النتائج المرجوة في الدنيا والآخرة.
بينما إذا جئنا لما هو بديلٌ عن الصبر، إذا جئنا للحالة الأخرى: عدم الصبر في سبيل الله، في طاعة الله، في أداء المهام والمسؤوليات الكبيرة جدًّا، واتجهنا إلى الخيارات الأخرى: خيار الانهيار، الاستسلام، العجز، اليأس، الضعف، الانهيار أمام العدو، وتمكين العدو من فعل ما يشاء ويريد، من الوصول إلى أهدافه ومآربه الشيطانية، ما الذي ينتج عن ذلك؟ ينتج عنه: العناء، القهر، الذلة، الاضطهاد، الضيم، الذي يستمر، وإذا صبر الناس عليه، فصبرهم لا يفيدهم، لا يجديهم، لا ينفعهم، لا يغيِّر من الواقع شيئاً، وحتى لا يؤجرون عليه، ليس لهم عليه أجرٌ ولا فضل، فيكون هو الصبر السلبي، بدلاً عن الصبر الإيجابي، عن الصبر المطلوب، وهي حالة خطيرة جدًّا، وتدوم الحالة، تستمر ما داموا مستمرين على ذلك، وإذا أرادوا التحرك فيما بعد، وتحرَّكوا متأخرين بعد أن يتمكن العدو منهم أكثر، بعد أن يكونوا قد فرَّطوا بمسؤولياتهم وواجباتهم لمدةٍ طويلة، وتحرَّكوا متأخرين، كانوا محمَّلين بالإصر الثقيل، بالحمل الثقيل، الذي هو نتاجٌ لتفريطهم، عاقبةٌ لعصيانهم، لاستهتارهم، لإهمالهم، لتقصيرهم، فتكون الكلفة هائلة، والنتيجة ضئيلة، ويحتاجون إلى عناء كبير جدًّا، ومدة زمنية طويلة جدًّا، وهذه مسألة خطيرة جدًّا.
إنَّ كل الغايات العظيمة للصبر في القيام بمسؤولياتنا، في طاعتنا لله “سبحانه وتعالى”، وأدائنا لمهامنا وجهادنا في سبيل الله، وتصدينا لأعداء الله، على النقيض منها تماماً نتاج التخاذل، نتاج التفريط، عواقب التقصير، فالله “سبحانه وتعالى” عندما قال لنا في الصبر في سبيله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، النتيجة المناقضة لها عندما لا نصبر في سبيله: لعلكم تخسرون، لعلكم تخسرون في الدنيا والآخرة، تخسرون كل شيء، تخسرون حريتكم؛ فيستعبدكم أعداؤكم، تخسرون كرامتكم؛ فيذلكم ويهينكم أعداؤكم، تخسرون شرفكم، تخسرون أمنكم، تخسرون كل شيء، تخسرون دينكم ودنياكم، البديل عن: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، عندما تنهارون، عندما لا تؤدون واجباتكم بصبر، لا تنهضون بمسؤولياتكم بصبر: لعلكم تخسرون كل شيء والعياذ بالله.
البديل عن قوله تعالى في الصبر في سبيله، في الصبر في طاعته، في الصبر في القيام بالمسؤوليات المقدسة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، البديل عن ذلك: أنَّ الله يخذل أولئك الذين لم يصبروا في سبيله، لا يقف معهم، لا يؤيِّدهم، لا يعينهم، لا يرحمهم؛ لأنهم لم يستجيبوا له، فيما فيه عزهم، فيما فيه نصرهم، فيما فيه خيرهم، فيما فيه فلاحهم، فيما فيه قوتهم، فيما فيه كرامتهم، لم يستجيبوا له، ولذلك فليس معهم، سيخذلهم، سيسلط أعداءهم عليهم، والتسليط حالة رهيبة جدًّا، تتضاعف بها وتزداد أشكال المعاناة مع الذلة والهوان إلى حدٍ كبير، فيصلون إلى حالة: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ}[الطور: من الآية16]، واقعٌ مخزٍ، مذل، مهين، كله اضطهاد، وظلم، وقهر، وذلة، ويستمر، والصبر فيه- كما قلنا- ليس مجدياً، وليس عليه أجرٌ، وليس له فضلٌ، هذه المقارنات مهمة جدًّا في التواصي بالصبر، عندما نقارن بين النتائج، بين العواقب، بين ما يترتب على هذا، وما يترتب على ذاك.
من أهم ما ينبغي التركيز عليه في التواصي بالصبر: التواصي بالدوافع المهمة المساعدة على الصبر، وفي مقدمتها: الدافع الإيماني، كلما زاد إيمانك؛ كلما زاد تلقائياً صبرك، الصبر هو ترجمة للحالة الإيمانية، تجلٍ للحالة الإيمانية، أنت في واقعك الإيماني تندفع، ولديك ما يدفعك إيمانياً لتصبر أشياء كثيرة جدًّا: اعتدادك بمعية الله، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، أنت تحرص على أن يكون الله معك، فتعرف قيمة الصبر في ذلك، الصبر في طاعة الله، في العمل في سبيله.
ولهذا عندما يقول الله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر: الآية7]، من أجل الله، أنت تصبر استجابةً لله “سبحانه وتعالى” فيما يرضيه، وفيما له أهميةٌ كبيرةٌ في أن تحظى أنت برضوانه، أن تحظى برعايته الشاملة، الواسعة، وأن تحظى بما وعد به من الوعود العظيمة.
يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}[الرعد: من الآية22]، فكيف كان حرصهم على أن يحظوا برضوان الله عنهم، من أجل الله، هذا دافعٌ كافٍ، دافعٌ عظيم، دافعٌ مهمٌ جدًّا سيساعد الإنسان في مواجهة كل التحديات والصعوبات، أنه من أجل الله، وفي سبيل الله، ومع الله، وأنه يرجو من الله ما يرجوه منه من عظيم الأجر، والفضل، والمنزلة، والنتائج التي وعد الله بها في الدنيا والآخرة.
من الدوافع المهمة للصبر: الدوافع الإنسانية والأخلاقية، زكاء النفوس، والقيم الفطرية التي يعشقها الإنسان بفطرته، كالعزة، والكرامة، والإباء، والإنسان إذا امتلك أيضاً الضمير الحي، فكل هذه القيم كلما نمت في الإنسان، كلما ترسخت فيه، كلما تربى عليها أكثر؛ كلما كان ذلك عاملاً مساعداً في الصبر أكثر.
فالذي يعشق العزة، ويريد أن يكون عزيزاً، يأبى الذلة، يأبى الهوان، يأبى ما يسعى له الأعداء، وما يعملون من أجله، من إذلال الأمة، من إهانتها، من استعبادها؛ وبالتالي يندفع إلى الأعمال، إلى المهام، إلى المسؤوليات في التصدي للأعداء بإقبال واندفاع كبير، لا يحتاج إلى أن تعظه ليلاً ونهاراً، وتتحدث معه في كل لحظة، وميكرفون إلى أذنه على طول أربعة وعشرين ساعة، لو فترت عنه قليلاً من الوقت، تغيرت اهتماماته، وتغير تفكيره، وتغير توجهه، وتكاسل، وتراجع، يوجد لديه الدافع الداخلي، الدافع الداخلي، عزته، كرامته، إباؤه، ضميره الحي، عندما يشاهد الأعداء، يشاهد إجرامهم، مؤامراتهم، طغيانهم، فظائعهم، ظلمهم بحق الناس، ظلمهم بحق شعوب أمتنا، ظلمهم لشعبنا اليمني، الجرائم الفظيعة جدًّا، الإنسان الذي لا تزال فطرته سليمة، ويمتلك هذه القيم، بمجرد مشهد واحد من مشاهد تلك الجرائم الفظيعة جدًّا، ينطلق بكل جد، وبكل صبر، وبكل اهتمام، وبكل تفانٍ، وبكل استبسال، والإنسان الذي مات ضميره، وفقد هذه القيم، لو يشاهد ما يشاهد، ولو يسمع ما يسمع، لا يتفاعل، لا يتأثر، لا يتحرك.
من أهم الدوافع المهمة للصبر، هو: الوعي بظروف الحياة، هذه الحياة هي ميدان مسؤوليةٍ واختبار، فيها المشاق، فيها الصعوبات للمؤمن والكافر، للفاجر والتقي، لكل الناس، هذه الحياة فيها الصعوبات، فيها التحديات، فيها المعاناة، فيها… للجميع، الفارق الكبير جدًّا هو أنه: في طريق الإيمان والتقوى يكون لصبرك إيجابياته العظيمة، نتائجه الكبيرة، الأجر العظيم، وتكون أيضاً في الموقف المشرف، الذي يتناسب مع كرامتك الإنسانية التي أراد الله لك أن تصونها.
ليس هناك مثلاً أمل في أنَّ الإنسان لو يتنصل عن صبره في طاعة الله، عن صبره في النهوض بمسؤولياته، عن صبره في العمل في سبيل الله، أنه سيكون الواقع مختلفاً تماماً، فسيرتاح ولا يتعب أبداً، وسيهنأ بهذه المعيشة، ولا ينال أي منغصات، وسوف يعيش وكأنه في الجنة، لا تحصل هذه الحالة.
الآخرون الذين هم في سبيل الطاغوت، الذين باعوا كرامتهم، باعوا إنسانيتهم، باعوا دينهم، باعوا قيمهم وأخلاقهم، هم في عناء، هم في شقاء، هم يتكبَّدون الخسائر الكبيرة، يلحقهم بأكثر مما يلحق الآخرين في كثيرٍ من الأمور، مع الفارق الكبير في الموقف، ونتائجه، وعواقبه في الدنيا والآخرة، ولذلك المسألة هذه مسألة مهمة جدًّا، الوعي بظروف هذه الحياة.
والوعي أيضاً بعواقب التفريط، عواقب التقصير المهولة، الرهيبة، الخطيرة، الفظيعة، التي يجب أن يسعى الإنسان لما يقيه منها، لما يقيه منها، عواقب التفريط، والتهاون، والتنصل عن المسؤولية، عواقب خطيرة جدًّا في الدنيا وفي الآخرة.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، نسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
سبأ