تيسير خلف:
وقع المبشّر اليسوعي الإسباني بدرو بايز أسيراً في يد السلطان الحضرمي عمر بن بدر الكثيري في عام 1590 إبان فترة الصراع البرتغالي العثماني على سواحل الجزيرة العربية وطرق التجارة البحرية، وبما أن السلطان الكثيري كان يدين بالولاء للعثمانيين؛ فقد سلم الراهب الإسباني ورفيقه الأب أنطونيو دي مونسيرات للعثمانيين، حيث أمضيا في صنعاء مدة خمس سنوات رهن الاعتقال، وخلال ذلك تعلم بايز اللغة العربية، ووضع مؤلفات طبعت في فترة لاحقة حول وقائع رحلته ومشاهداته ضمن مؤلفه الضخم تاريخ إثيوبيا.
ولد بايز قرب مدريد في عام 1564، قبل ستة عشر عامًا من اتحاد التاجين الإسباني والبرتغالي (1580 – 1640). وكان ذلك الاتحاد سبب النشاط التبشيري لبايز الذي درس في شبابه بالكلية اليسوعية في بيلمونتي. وقد تطوع رحالتنا لخدمة النشاط اليسوعي في الهند، وأُرسِل في عام 1588 إلى ميناء غوا الذي كان جزءاً من الهند البرتغالية، حيث خدم في كلية القديس بولس اليسوعية في تلك المدينة.
وبناء على أوامر من الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا والبرتغال؛ توجه بايز مع رفيقه البادري دي مونسيرات إلى إثيوبيا لتجديد الاتصالات بالبعثة اليسوعية هناك؛ ولكنهما اعتقلا في جزيرة كوريا موريا على السواحل اليمنية، حيث بدأت قصته التي دونها في كتاب لم يحظ بالكثير من الاهتمام. وقد صدرت ترجمة مختصرة لهذه الرحلة ضمن كتاب “تسع رحلات مجهولة جنوب ووسط الجزيرة العربية” عن “مركز التاريخ العربي للنشر” بترجمة يحيى عبد المطلب السيد قبل أعوام، ولكن الرحلة تستحق اهتماماً أكبر لترجمتها كاملة إلى العربية من مصدرها الأصلي، نظراً لما تحتويه من معلومات مهمة عن جنوبي الجزيرة العربية في فترة انتقالية شحيحة المصادر.
أسيران في كوريا موريا
انطلق الراهبان الإسبانيان من ميناء هرمز في رحلة إلى ميناء زيلع، على ساحل الحبشة، ولكنهما وقعا أسيرين بيد البحارة العرب بعد قليل من مغادرة سفينتهما جزر كوريا موريا. ويروي لنا بايز قصة وقوعهما في الأسر كما يلي: “في اليوم التالي نزلنا الساحل قبل مدينة ظفار بمسافة قصيرة، وعندما كنا نسير على الشاطئ، وكان يصحبنا رجل مسلم (شامي)، كان نفسه معنا في إثيوبيا، يرشدنا، بدأ يلح على الأب أنطونيو مونسريت كي يقول: إنه مسلم، وبالتالي يسمح لنا بالسير والتنقل، فأجاب الأب: لست هذا الشخص الذي يقول ذلك؛ حتى ولو مت مئة مرة. عندئذ سكت الرجل المسلم، وعندما وصلنا منزل عمدة المدينة سألنا عدة أسئلة عن رحلتنا، وعندما انتهت هذه الأسئلة قال: إنني أعرف أنكم جواسيس وأنكم ذاهبون إلى إثيوبيا لإقناع الإمبراطور أن يشن حرباً على الأتراك”.
ويضيف: “حبسونا ولم ننم تلك الليلة بسبب القمل والبق، وفي اليوم التالي نقلونا إلى مساكن من الطين كأنها قلعة، وهناك قضينا عدة أيام ذقنا فيها مرارة الجوع؛ حيث كان يصلنا مقدار ضئيل من الطعام؛ لأن الحراس اعتادوا أن يأكلوا المخصص لنا، وأثناء وجودنا هنا جاء إلى زيارتنا هذا المسلم (الشامي) الذي اصطحبناه من مسقط، وقال: إن عمدة المدينة قرر عدم قتلنا، ولكن سوف ينقلنا إلى الملك صاحب الحق أن يحكم علينا بالموت”.
وكانت الرحلة إلى مقر الملك بحراً، حيث سافر الراهبان مع أمتعتهما تحت الحراسة لمدة خمسة أيام، قبل أن يهبطا البر، وقد وصف لنا الطريق كما يلي: “لم نسر في طريق، بل سرنا بين الصخور والشجيرات الشوكية، ووصلنا قرية صغيرة. أعطوني نعالاً ضيقة، ووصلت إليها عاري القدمين، وفي صباح اليوم التالي سرنا على الأقدام وراء الإبل على امتداد ممر صخري ضيق، وتحملت آلاماً شديدة بسبب السير حافي القدمين، أما الأب أنطونيو مونسريت فلم يستطع مواصلة السير مع الإبل؛ حيث إنه رجل مسن، وفي اليوم التالي سمحوا لنا أن نركب الإبل وسط الأمتعة، ثم دخلنا صحراء رملية شاسعة، وعندما حان وقت تناول الطعام، أشعلوا النيران وجهزوا مقداراً من الجراد قدموه لنا، ولكن لم نقدر على تناولها، وعندما لاحظوا إعراضنا جهزوا خبزاً من دقيق القمح من الذي أخذناه معنا على القارب، وجهزوه على النار، ومن ذلك الحين اعتادوا أن يقدموا لنا هذا ولا شيء غيره”.
قهوة في مدينة تريم
ويشكو بايز من قلة الماء على الطريق، ويصف لنا كيف توهم وجود جدول من الماء في قلب الصحراء، ليكتشف أنه مجرد سراب، ويقول: “سافرنا عبر الصحراء مدة عشرة أيام دون أن نلتقي بإنسان واحد، ولم نسر في طريق واضح؛ ذلك أن الرمال غطت الطرق، ومن هنا عرفوا طريقهم نهاراً باستخدام الشمس وليلاً باستخدام النجم القطبي، وفي مساء اليوم الأخير وصلنا مدينة كبيرة عرفوها باسم تريم (وسط حضرموت)، وانتشرت الأخبار بوصول سجناء برتغاليين، وجاء حشد من الناس لرؤيتنا قبل أن ندخل المدينة”.
ويحدثنا الراهب بايز عن معاناتهم لحظة دخولهم المدينة، حيث تعرضوا لجملة من الإهانات ومحاولات الضرب بسبب توهم الأهالي أنهم جواسيس. وبعد أن لجأ بهم مرافقوهم إلى أحد البيوت، خرجوا بهم فجراً كي لا يصادفوا الناس في طريقهم، ويقول الراهب بايز: “قبل الفجر أخذونا في عجلة إلى أن خرجنا من المدينة؛ ذلك لأنهم كانوا يخشون الهياج عند رحيلنا؛ مثل ذلك الذي حدث عند وصولنا، وجاءت الإبل في أعقابنا. في ذلك اليوم وبعده بيومين آخرين مررنا بعدد من المدن، لكن لم يتكرر ما حصل من أهالي تريم مرة أخرى”.
ويصف لنا بايز القلعة الأخيرة من سلسلة القلاع التي صادفوها في طريقهم بعد الخروج من تريم، وفيها كان يقيم شقيق الملك ويدعى جعفر، وهي قلاع قديمة أخبره المرافقون أن المسيحيين القدماء في اليمن هم الذين بنوها، “أخذنا المصاحبون إلى منزل شقيق الملك، وكان الرجل يجلس على أرض يغطيها سجاد حسب عادة المسلمين، وعندما وصلنا استقبلنا استقبالاً حسناً، وأجلسنا وقدم لنا التحية من القهوة، وهي عبارة عن ماء مغلي؛ فيه ثمرة عرفوها باسم البن، واعتادوا أن يشربوها ساخنة، وسألنا عن هويتنا ومن أين جئنا؟ وبعد حديث استمر لوقت قصير طردنا، وقال للرجال المصاحبين: إن هؤلاء الرجال ينبغي ألا يعاملوا معاملة المسلمين”.
مقر السلطان عمر الكثيري
غادر الراهبان ومرافقوهما مساء ذلك اليوم إلى مقر السلطان عمر بن بدر الكثيري في مدينة هينن الحضرمية، والتي يصفها لنا الراهب بايز بقوله: “أخذونا إلى القلعة التي يعيش فيها السلطان عمر، وكان البناء عالياً مبنياً من اللبن، كما كانت تبنى مساكن هذا الزمان، ووضعونا في برج فوق الجدار حتى لا يقلقنا الجمهور الذي سعى لرؤيتنا، وبعد يومين من وصولنا أمرهم السلطان أن يسلمونا ملابسنا؛ لأننا أصبحنا شبه عراة، ولكنهم لم يسلمونا كل شيء، وفي المساء أخذونا إلى المكان الأعلى في القلعة؛ حيث كان الملك جالساً فوق مصطبة ارتفاعها عن الأرض ثلاثة أو أربعة أشبار، كان يرتدي عباءة خضراء اللون، وفوق رأسه عمامة أطرافها منقوشة بخيوط الذهب، كان في الأربعينيات من عمره، متوسط الطول، ويجلس أمامه على الأرض أحد الأشراف، وكانوا يحترمونه أشد الاحترام لهذا السبب، وكان بقية الرجال الحاضرين وقوفاً، فتقدمنا لتقبيل يد السلطان، وبالتالي دعانا بكل سرور للجلوس”.
ويبدو أن السلطان عمر بن بدر لم يرتح لمترجمهم الشامي، فأحضر جارية من بورما تتقن اللغة البرتغالية، وبدأت تترجم الكلام بينهما وبين السلطان، حيث نقلت لهما قوله: “لا تحزنوا، جئتم هنا بمشيئة الله، وأن أخطاءكم هي التي جلبتكم هنا بين هؤلاء الأشرار”.
ويضيف: “ثم أخذ الملك يسألنا عن هويتنا، وعن سبب ذهابنا إلى إثيوبيا، وأجبنا أننا آباء، وأننا قاصدون الذهاب إلى إثيوبيا حتى ننضم إلى البرتغاليين الذين وصلوا هناك منذ دخلوا في عصور قديمة، وبعد نهاية الحديث طلبنا منه أن يستجيب لنا، ويأمر بتسليمنا كتب القداس، فأجاب: إن شاء الله، إن شاء الله، وهنا أعادونا إلى المكان الذي كنا فيه من قبل. وفي اليوم التالي سلمونا كتب القداس، وغيرها من الكتب، وكان هذا بمثابة تعظيم لنا، وشكرنا الرب لأجل هذه الرحمة الكبيرة بأن يسر لنا القيام بالقداس. مكثنا هنا عدة أيام دون أن ندري نوايا الملك”.
وبعد عدة أيام حضرت الجارية البورمية لزيارتهما وقالت لهما إن السلطان كان يريد أن يطلق سراحهما مقابل فدية بسيطة، ولكنه لا يستطيع أن يفعل هذا حتى يعرف رأي الأتراك، وقالت إنها ترى أنه سوف يتركهما لحال سبيلهما. وروت لهما هذه الجارية قصتها وكيف وقعت في الأسر قبل سنوات طويلة.
عادات قديمة
ويقول الراهب بايز: “قضينا أربعة أشهر في السجن نعاني الحرمان، وكان الأهالي كذلك، لأن هذا الإقليم من الجزيرة العربية والذي يعرف باسم حضرموت إقليم فقير، معظمه صحراوي، والجزء المزروع منه ينتج القليل بسبب ندرة مياه الأمطار، فهم يزرعون بعض القمح، وكان الشعير هو المحصول الأساسي، وعندهم بعض أشجار النخيل. كانت ملابس الرجال في العادة رديئة، شعورهم طويلة مجدولة باستخدام دبابيس من الحديد، ويستخدمون الدهون التي كانت تزيد من رداءة شكل شعورهم، وكانت النسوة يستخدمن غطاء رأس من القماش الأبيض، وعندما تخرج النسوة من البيوت يغطين وجوههن بنقاب أسود مثل الراهبات”.
ويضيف: “كانت النسوة يتمسكن ببعض العادات التي كانت معروفة في عصور الكنعانيين المبكرة، وكانت إذا ماتت للملك واحدة من بناته؛ تأتي النسوة من كل صوب قريب على الأقدام سيراً، يغطي وجوههن التراب، وبكل الأسى يأخذن الملكة إلى منزل قرب القلعة حيث يقضين شهراً حداداً، واعتدن الخروج يومياً، صباحاً ومساءً إلى سطح المنزل، وكان السطح متسعاً، وكن يصطففن في صفين متقابلين وجهاً لوجه، تتماسك أيديهن، وبين الحين والحين يلففن أذرعهن حول بعضهن البعض، ويصحن عالياً، وكأنهن ينادين بعضهن البعض بالعويل”.
من هينن إلى مدينة بلقيس
بعد الشهور الأربعة في مدينة هينن طلب الحاكم التركي المقيم في صنعاء من السلطان عمر الكثيري إرسال “الأسرى البرتغاليين” لأن هذا الأمر من اختصاص السلطة العثمانية، ويقول إن السلطان عمر شعر بالأسف حيال ذلك، ولكن لم يكن يستطيع أن يفعل شيئاً، “وهنا قرر أن يرسلنا وبصحبتنا أربعة خيول أصيلة؛ حتى لا يتهم بأنه استولى على أمتعتنا، أو أن يلام بالاحتفاظ بنا عنده فترة دون أن يبلغ بذلك. واستدعى الرجل المكلف بأن يأخذنا، ونصحه أن يهتم بنا في الطريق من حيث الطعام، وكل ما هو ضروري؛ وأمر أن يعطونا الجياد لنركبها في الرحلة، بالإضافة إلى حراسة جيدة، حيث إن الطريق معرض لظهور قطاع الطرق”.
ويستطرد الراهب بايز في وصف الطريق الصحراوي الذي سلكوه باتجاه صنعاء حيث يقول إنهم توقفوا في مدينة بلقيس، حيث شاهدوا آثار مبانٍ كبيرة، وشاهدوا أحجاراً عليها كتابات لم يقدر الأهالي على قراءتها أو تفسيرها، ويقول: “كان ثمة فناء واسع اعتادوا أن يستخدموه للدفن، وعندما سألناهم عن ماهية هذا المبنى؛ أخبرونا أنه يوماً ما كان مدينة كبيرة، وأن ملكة سبأ كانت تمتلك أعداداً من الماشية هنا”.
سجينان في صنعاء
يضيف الراهب بايز: “واصلنا رحلتنا من مدينة بلقيس فقطعنا اثني عشر يوماً في بلاد آهلة بالسكان، ولكن أرضها وعرة، وعند عبور وادي واسع سقط الأب مونسيرت من فوق الناقة؛ وحيث كان الماء الذي يجري قليلاً، فإنه اصطدم بالأرض حتى أنه فقد الوعي فترة طويلة، وكان لا يزال يتألم من الجرح، إلى أن وصلنا مدينة صنعاء مقر إقامة الباشا التركي وهو الحاكم الذي يطلقون عليه اسم صوباشي، وقد خرج لاستقبالنا على الطريق قرب المدينة، ومعه رجال منهم من يركب الخيل وآخرون على الأقدام، وكانوا يقرعون على أواني الطهي، وأمر أن نذهب أنا والأب أمام جواده، وبهذا الشكل أخذونا عبر شوارع المدينة إلى القلعة التي يعيش فيها الباشا”.
ويصف لنا صنعاء بأنها “مدينة عظيمة في عصورها القديمة، وبعد أن استولى عليها الأتراك نقص عدد سكانها؛ حتى لم يعد عدد مساكنها يتعدى 2500 مسكن من بينها 500 مسكن لليهود، وداخل أسوارها المبنية من الطوب السميك، عدد كبير من الأبراج، وفيها حدائق وخمائل ذات أنواع من الفاكهة التي يوجد مثلها في البرتغال، وكل هذه الحدائق تروى من الينابيع؛ حيث إنه لا يوجد عين ماء واحدة داخل المدينة”.