عادة ما تكون الشخصيات والأحداث هي محور كل كتابة تاريخية، غير أن تغيير هذا المعطى قد يعيد كتابة تاريخ ما، كما هو الحال لو تناولنا التاريخ العربي الإسلامي من منظور مفهوم المؤسسة.
ذلك ما يتصدّى له الباحث التونسي الصحبي بن منصور في كتابه الصادر مؤخراً عن “مجمع الأطرش”، بعنوان “أضواء على المؤسسات في الحضارة العربية والإسلامية: تاريخ التنظّم في العالم الإسلامي الوسيط”.
يوضّح المؤلف أهمية المؤسسات كظواهر مؤثرة في المجتمع البشري، ويلفت إلى أن المجتمعات العربية الإسلامية كانت من أكثر المجتمعات اجتهاداً في تنظيم مؤسساتها والتفكير فيها من القبيلة إلى الدولة ومختلف أجهزتها، حيث يلاحظ عمليّات المَأْسَسة في تاريخها.
قدّم الكتاب الباحث محسن التليلي، وقد أشار إلى أن “استخدام مفهومَيْ المؤسّسة والتنظّم يُعَدّ من الاستعمالات الاصطلاحيّة المُبتَكَرة في الفكر الإنسانيّ الحديث. غير أنّ هذه الظاهرة قد سبقت في الواقع التاريخيّ بلورة المفهوم والوعي بأهمّيته في المستوى النظريّ اعتباراً للدور الحيويّ الذي لعبته في مأسسة نُظُم العيش وتقاليده منذ أقدم العهود الإنسانيّة، وفي رسم أنماط الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة وبناء مؤسّساتها والعمل على تفعيلها وتطويرها في مختلف ميادين النشاط الإنسانيّ، حتّى أنّ المؤسّسة وطُرُق تنظيمها ونشاطها ومدى ازدهارها وإشعاعها باتت علامة من علامات ازدهار الشعوب والمجتمعات وتقدّم الدول وإشعاعها في الزمن المعاصر، ومقياساً به نقيس تطوّر البنية الفكريّة والعقليّة للأفراد والجماعات ودرجة وعيها السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ وأثره في هندسة مشاريع التنمية البشريّة حاضراً ومستقبلاً”.
كما أشار التليلي إلى أنّ التناول الأكاديميّ لهذه الظاهرة ساهم في “عقلنة الماضي وإضاءته والإفادة منه لدعم جهدَيْ التأصيل والتطوير”.
يبدأ اشتغال بن منصور على مفهوم المؤسسة في تبلورات مبكّرة للتنظّم ظهرت في قريش، وهنا يقدّم إضاءات شاملة للبيئة السياسية التي سبقت الإسلام وصعود مفاهيم السيادة والنسب والشورى، وكيف تمظهر ذلك في التشكيلات السياسية والعسكرية.
يمتد بحث المؤلف إلى مراحل تاريخية لاحقة، مثل ظهور الإسلام وأثره في تغيير البنية المؤسساتية، زمن البعثة، ثم لاحقاً مع ظهور مفهوم الخلافة، والتي وصلت درجة عالية من المأسسة وتفرّع عنها طيف واسع من المؤسسات.