واسينى الأعرج*
كل ما يحدث اليوم أمام أعيننا من انهيارات وإحلال واحتلال، هو مجرد تجليات لمرض عميق ليست فيه فلسطين إلا أداة لاختبار فداحة ما حصل ويحصل، وما سيحصل. تبدو فلسطين اليوم في خريفها القاسي، بعد خراب الإحلال الذي استمر أكثر من سبعين سنة وما يزال، كأنها سبارتا في الملحمة اليونانية، بعد حرب طروادة المدمرة، في أقصى حالات الضعف.
فبعد حصار العشر سنوات، لا تدري هلينا الجميلة من سيكون منقذها، من سرقها (باريس) من زوجها مينيلاس؟ أم أخيل (آشيل) الذي جاء لينقذها. لم تكن لدى باريس القوة لمجابهة غريمه بالخصوص بعد مقتل هيكتور، إلا الحيلة والحيلة دائماً، للدفاع عن المرأة التي رافقته في رحلته حتى وجد المقتل في كعب أخيل. أي حيلة نملك اليوم للخروج من يأس بدأ يتحول إلى نمط حياة، نقبل به وكأنه المنتهى؟
منذ الانكسار الفلسطيني – العربي الأول، هزيمة 1948، خسر العرب قوة المبادرة. الذي ينتصر عليك تتفتح شهيته على انتصارات أخرى، بالخصوص إذا كان هذا العدو ينام على أيديولوجية إقصائية، الصهيونية، مبنية على نظرية الإحلال، طرد شعب من أرضه وتعويضه بشعب آخر يؤتى به من وراء البحار، حتى اليهودي الفلسطيني يبدو أمامه ضحية.
لا حل ثالث أمام المنهزم، إما أن يعيد قراءة تاريخه بشكل نقدي صحيح، أو يستسلم لقدر الهزائم المتتالية. ليس تشاؤماً وسلبية،لكنها دعوة للحفر في اللحظة المؤسسة للهزيمة لتجاوزها وتخطيها. فقد كان ميدان هذه الحرب الوجودية دائماً منطقة الشرق الأوسط، واشتركت فيها كل القوى العربية التي كانت تحت المظلة العثمانية: المملكة المصرية، ومملكة الأردن، ومملكة العراق، وسوريا ولبنان، والمملكة العربية السعودية.
كيف يمكن رسم المشهد الدرامي القاسي الذي حولته الهزائم المتكررة إلى قدر ملعون وإلى خريف قاتل؟ الحروب الأولى اعتمدت على المتطوعين في غياب جيوش نظامية حقيقية. بينما المليشيات الصهيونية كانت مدربة، ومسلحة بأحدث الأسلحة البريطانية الفتاكة، ومكونة من المجموعات التي سمحت لها الحرب العالمية الثانية من أن تخرج قوية من تجربتها: البلماخ والإرجون والهاغاناه والشتيرن. الجهة الصهيونية أخذت موضوعة الحرب بجدية لأن القضية بالنسبة لها وجودية.
فقد كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أصدرت في خريف 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947م قراراً بتقسيم فلسطين لدولتين يهودية وعربية، وتدويل منطقة القدس، فكان التقسيم كالتالي: 56% لليهود، 43% للعرب،1% منطقة القدس (وضعت تحت الانتداب بإدارة الأمم المتحدة). العرب رأوا فيه ظلماً كبيراً.
المشهد تراجيدي وقاس. الظلم واضح. يفتح الفلسطيني فجأة عينيه على أرض أخرى ومنطق آخر وجرح جديد سيستمر طويلاً في النزف حتى اليوم، بلا حل في الأفق، وعلى قوم آخرين يطالبون بحقهم في أرض لم يطأوها في حياتهم. كان العرب، شكلياً وعددياً، يبدون كأنهم سينتصرون بسهولة على المغتصب. بينما كانت الأيديولوجية الصهيونية آلة مدمرة تسند الجانب العسكري.
فقد استغلت فكرة «رمي اليهود في البحر» بشكل ثقيل. وألصقت تهمة معاداة السامية بجمال عبد الناصر، الذي اتضح لاحقاً أنه لم يقل هذه الجملة. الذي قالها في 1948 هو عبد الرحمن عزام باشا، أول أمين عام لجامعة الدول العربية، قال: «إن على اليهود الذين جاؤوا إلى فلسطين عن طريق البحر، عليهم أن يعودوا من حيث جاؤوا، على السفن ذاتها التي حملتهم، عبر البحر أيضًا».
ومن فضح اللعبة كان هو الوزير العمالي كريستوفر ميهيو، الذي حوكم في بريطانيا. بعد أن استمعت المحكمة إلى الأدلة، أصدرت في فبراير 1976 قرارها لصالح ميهيو الذي دافع عن فكرة أن جمال عبد الناصر لم يقل هذا الكلام.
وكان على العرب الدفاع عن أنفسهم. في 12 أبريل / نيسان 1948 أقرت الجامعة العربية بإرسال الجيوش العربية إلى فلسطين، وأكدت اللجنة السياسية أن الجيوش لن تدخل قبل انسحاب بريطانيا المزمع في 15 مايو/ أيار.
هل بيعت، حقيقة، أرض فلسطين في اتفاق سري مع الإنكليز والوكالة اليهودية، الذي كان يقضي بضم الضفة الغربية لنهر الأردن، في شرق الأردن، بدلاً من قيام دولة فلسطينية عليها؟ في المقابل، تنسحب القوات الأردنية من الأراضي المخصصة للدولة اليهودية وفقاً لقرار التقسيم؟ في الساعة الرابعة، بعد الظهر من 14 مايو، أعلن المجلس اليهودي الصهيوني قيام دولة إسرائيل.
بعد بضع دقائق اعترفت بها الولايات المتحدة، ونشر الرئيس الأمريكي هاري ترومان، رسالة الاعتراف بإسرائيل. بينما كان العرب في نقاشات المهزوم، بين التدخل من عدمه. قبل انتهاء الانتداب البريطاني لفلسطين بأسبوعين، حدث تغير كبير في الموقف المصري حددته القرابة مع الإنجليز، وأصبح الملك فاروق ورئيس وزرائه النقراشي، من المؤيدين لدخول جيش مصر الحرب.
وتم ذلك بشكل ارتجالي، بلا دراسة علمية لحقائق الميدان. في مساء يوم 12 مايو 1948م، أي قبل إعلان انتهاء الانتداب بيومين، وافق المجلس على دخول الحرب. في الجهة الصهيونية كان الأمر مختلفاً. فقد كانت الوكالة اليهودية تمثل القيادة السياسية اليهودية ويرأسها ديفيد بن غوريون، بالتعاون مع القوة العسكرية المتمثلة في الهاجاناه الذي شكل لاحقاً جيش الدفاع، وجماعتي إرجون وشتيرن.
سارعوا إلى استغلال الوقت استغلالاً ذكياً، بتنظيم محكم، وبخرائط حربية كانت جاهزة وتنتظر مغادرة الإنجليز فقط. تولى من الجهة العربية، الملك عبد الله مركز القيادة العليا للجيوش العربية في فلسطين، بينما تكلف اللواء المصري محمد أحمد المواوي القيادة العامة للقوات العربية، بالإضافة إلى قوة خفيفة من المتطوعين يقودها البكباشي أحمد عبد العزيز، تعمل على المحور الشرقي من خط العوجا إلى بئر السبع إلى الخليل وبيت لحم. وبدأ التفكير في تدبير الأسلحة بعد رفض الإنجليز بيعها لهم.
ولم تستطع لجنة احتياجات الجيش أن تلبي الحاجات العسكرية. فظهرت بعدها فكرة السلاح الفاسد، الذي قيل عنه إنه كان السبب الرئيس في الهزيمة العربية. لا نعتقد ذلك. ربما كان عاملاً ثانوياً. الذي يدخل حرباً مصيرية قبل يومين فقط، لا يمكنه إلا أن يهزم أمام عدو مشبع بالأيديولوجية الصهيونية ومصمم. انتهت حرب فلسطين بهزيمة مصر والدول العربية، واستيلاء إسرائيل كل أرض فلسطين كلها، ما عدا قطاع غزة والضفة الغربية والقدس العربية. فحصلت على أكثر مما أعطتها إياها وثيقة التقسيم.
كل المقاومات فشلت لأن العرب دخلوا بعقلية المهزوم أو المستهين بالعدو، فقد تشكل جيشهم الأول من المتطوعين وليس من محاربين حقيقيين، ومن لحم المدافع الذين ذهبوا للجبهات ليس للانتصارلكن للاستشهاد. جيش الإنقاذ الذي أوكلت له مهمة إنقاذ فلسطين، بلا تدريب، كان عليه إنقاذ نفسه من هلاك كان يرتسم في الأفق. طريق جهنم مفروش بالنوايا الحسنة.
على الرغم من أن عدد وحدات جيش الإنقاذ كان كبيراً، لم تنفع لا قيادة ولا شجاعة اللواء إسماعيل صفوت، الذي كان وراءه حوالي 4000 متطوع، ولا قيادة وشجاعة فوزي القاوقجي، ولا جرأة 2500 مجاهد فلسطيني، على صناعة قدر آخر غير الهزيمة. الرغبة كانت كبيرة، لكن الفعل كان انتحارياً في النهاية. لم يكن الجيش الإسرائيلي قوياً، لكن الجيش العربي كان ضعيفاً. تلك هي المعادلة التي تتحكم في المصير العربي اليوم. لن يستعيد العرب أراضيهم المنهوبة في ظل ظلم دولي فادح، إلا إذا حرروا سماءهم.
- روائي جزائري