الحزين جداً/ جميل مفرِّح
ترك نصف كأسه بارداً ومضى
(1)
خمس سنوات وربما أكثر مضت دون أن نلتقي.. ثم خمسة أيام فقط منذ التقيته آخر مرة بشوشا أنيقا مختلفا، إلا في ابتسامته وتعابير فرحته ودهشته واشتياقه لزمن مضى بيننا مفعما بالصداقة والزمالة والمحبة.. التقينا قبل خمسة أيام في مقهى مدهش بالتحرير فاستغرقنا في الاشتياق وفي موجات من العناق واللهفة، كما يلتقي شقيقان فرقتهما غربة طويلة.. كان كل منا ينظر إلى كأس الشاي الخاص بالآخر باستعطاف متمنيا ألا ينتهي فتنتهي جلستنا الحميمية تلك.. جلسةٌ لم يبدُ عليها إطلاقاً ما يدل على أنها أخيرة..
أدركنا ذلك فتوقفنا عن الارتشاف في منتصفي كأسينا، ونحن نُقلِّب في دفاتر ذكرياتنا المشتركة منذ النادي الأدبي وجامعة صنعاء ومرورا بمعارض الكتاب والفعاليات الثقافية المشتركة كمشاركين وكجمهور وكمنظمين أيضاً، ثم باتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وسكرتارية فرع صنعاء، التي رشحنا له معا في إحدى الدورات.. ووصولا إلى زمالتنا في العمل الصحفي خصوصا في الملحق الثقافي لصحيفة الثورة..
تركنا كأسينا يبردان في منتصفيهما ولففنا، في وهلات موجزة، شريط الذكريات إلى بضع عشرة من محطات حياتنا الأدبية والثقافية المشتركة.. وسرعان ما احتشدت المواقف والحكايات التي تلاقينا عندها وبدأنا نستغرق فيها ضحكا وحزنا وإعجابا وأحيانا ملامة.. لكننا سرعان ما أدركنا معا أن ذلك يحتاج إلى أكثر من جلسة على إحدى طاولات مقهى مدهش.. ليسبق هو إلى المبادرة بفكرة ألا يكون هذا اللقاء كافيا، لنرمم ولو جزءا مما أفسدته الظروف وأحدثته من جفاء قهري، وتباعد لا إرادي.. بادرني باقتراح موعد قريب لنقيل معا، ونسترجع ما نستطيع مما سرقته الأيام من لحظات كانت الأكثر جمالا وبهاء ووفاء للإبداع والصداقة معا..
ولكن…، ماذا جرى ..؟
لا أدري.. ها هو مجددا يحولنا إلى شخصيتين من شخصيات رواياته وقصصه، ويقرر بشيء من القسوة أن يخلف وعده ويمضي بعيدا..
لماذا يا عبدالكريم..؟!
لا تقلق يا عزيزي بشأن مجموعة غادة السمان التي وعدتني بإهدائها إليَّ.. لا أريد غادة ولا مجموعتها، أنت معفي من ذلك.. اخلف وعدك ذلك ما شئت فلن أغضب.. تخلَّفْ عما تشاء من وعود.. إلا وعدا واحدا، وعد ذلك اللقاء المرتقب، الذي بدأت منذ الوهلة الأولى أترقَّبُه وأتخيَّلُ ماهياته وما ستكون مادته وكيف ستجلجل في سمائه الضحكات والأمنيات التي تركل الحدود إلى آخر نقطة في الممكن..
(2)
هل تتذكر يا صديقي معرض صنعاء الدولي للكتاب الذي نظمه النادي الأدبي في جامعة صنعاء.. بالنسبة لي أنا ما أزال أتذكره جيداً كلما أشعلت سيجارة وأنا أسير في شارع ما حتى الآن.. حين رأيتني أخرج سيجارة ونحن نسير فطلبت مني أن نجلس على الرصيف حتى ننتهي من التدخين حرصا على صحتي.. لم تكتف يومها بأن تكون صديقا وحسب بل تحولت إلى طبيب وأنت تشرح لي أن تدخين سيجارة واحدة أثناء السير تعادل تدخين خمس سجائر خلال الجلوس.. جلجلت ضحكتي يومها حتى زادت من فوضى شعرك وتعابير وجهك ثم من اهتمامك وأنت تؤكد لي على أن نسبة الكربون الناتج عن التدخين التي تدخل إلى الصدر خلال السير أكثر.. نعم وقد توقفتُ محبةً لا قناعةً، عن الضحك والكركرة والتعليقات الساخرة.. ولكن لا أنكر أنني بعقلية ذلك الشاب العشريني كنت وما أزال حتى اللحظة أضجُّ من داخلي بالكركرة والسخرية من كل شيء حتى الأقدار التي لا يضاهيها أحد أو شيء في العبث بكل ما حولها من سواكن ومتحركات، عدا اللامبالاة التي كانت دستورا بالنسبة لنا ومنهاج حياة..
هل تعلم يا صديقي كان لدي الكثير والكثير من حكايات تلك الأيام وكنت واثقاً من أنها ستعجبك وستجلب كركراتك المميزة، التي لا أنكر أنني افتقدت حضورها الطبيعي في آخر لقاء لنا.. نعم كنت قبل خمسة أيام تضحك وتحاول ما تستطيع أن تُجاري ذلك الفتى الذي ينكر الغموض المُدَّعَى في شخصيته، بقدر ما يستنكر الغموض الموحل والمفرط في السرد والشعر.. ولكنك يومها لم تكن أنت.. أقسم لك بأنك لم تكن ذلك الصديق المتمرد على سوائد الكتابة والصداقة وسائر العلاقات المتبادلة بين اللغة والبشر والوجود..
نعم لمحت وأدركت ذلك بفراسة صديقك العشريني القديم، ولكن سرعان ما انتبهت إلى أننا لم نعد ذينك الطفلين المجنونين بالكتابة والشغوفين بالحياة والمبالغين في الأحلام والطموحات.. صحوت لوهلة يومها وقلت لنفسي:
إنها ما يقرب من ثلاثين عاما أيها الأخرق..!! أنتما اليوم كهلان انظر إلى شعركما كيف بهت لونه وامتقع بالكهولة شديدة الملوحة..!!
(3)
على الكعب المفتوح كأفق لا حدود له من كتاب الذكريات المشتركة الضخم، أضع إبهام الاسترجاع وأمررها بسرعة البرق على حواف الصفحات، فتندفق، بأسرع ما يستطيع الخيال، من بيناتها وبيونها ومن كل نقطة من ثناياها، مئات إن لم تكن آلاف المواقف والحكايات والمناسبات والتدوينات، التي كمنت في الذاكرة منذ أكثر من عقدين ونصف، وينسكب معها صديق حميم اسمه (عبدالكريم المقالح).. وأعيد الكرة من الجهة الأخرى، فتتماهى وتتلاشى مئات إن لم تكن آلاف الصور والمشاهد التي تقاسمنا تفاصيلها، ويستدير مكتملاً في منتصفها زميل ليس بأكثر ولا أقل من (المقالح عبدالكريم) ولا يمكن أن يكون أحد سواه..
أذكر اسمه فلا أحتاج لأن أتجشَّم عناء التذكُّر، لأنه في حدِّ ذاته واحدٌ من تفاصيل الحكي التي لا تنتهي، وعنوانٌ رئيسيٌّ في أحداث تلك السنوات الأجمل والأبهى..
(4)
ليس هناك من لا تمرُّ في حياته لحظاتٌ أو فتراتٌ، يكون فيها الأسى والحزن واليأس أشياء من مستلزمات الاستمرار، استمرار الدبيب والزحف على بُسُط الحياة وتعاريجها.. ومعظمنا لا يستطيع أن يمنع آثار تلك الظروف من أن تتجسَّد ربما في شقوق وتكسُّرات تنخرنا فلا تخفى، أو في عواصف وغيوم تجتاحنا فتظلم وتسودُّ معها وجوه حياتنا.. قليلون بل ونادرون جدا أولئك الذين تهدر الحياة في سيماهم ضاحكة، وينهمر التفاؤل من تفاعلهم مع الحياة كمزون منتظرة منذ بدء الخليقة، بينما تعج دواخلهم بالوجع وتغمر مسطحاتهم الخفية بحيرات من الملح الأجاج الذي لا مكان للحياة الطبيعية فيه.. ومن هؤلاء، الذين تشعر حين تستبطن خفاياهم أو تحظى بشيء من ثرثراتهم النادرة جداً، من تشعر وكأنهم يحملون أعباء كل البشرية وكل مآسي الحياة.. وصديقي وفقيدي (المقالح عبدالكريم) واحدٌ من هذه الكائنات التي تشعرك وكأنها مسئولةٌ عن كل تفصيل وإن كان صغيرا أو عابرا من تفاصيل الحياة..
……، (معذرة عبدالكريم) ربما لن أستطيع أن أقول المزيد لأن كل إضافة الآن لا يمكن ألا أن تصل بإبحاري معك ومع ذكرياتك إلى جرح الافتقاد وألم الخسارة.. ولكن كان بودي لو أنك يا صديقي أكملت كأس الشاي خاصتك، ولم تخلف وراءك ذلك النصف باردا على طاولة المقهى..
و….. و….. وداعاً يا صديقي..
أنت تعلم مثلي أن على أحدنا أن ينتظر الآخر.. وأدرك أنا مستسلما أن مهمة الانتظار، هذه المرة، قد آلت إليك وصارت من نصيبك.. ولكن لا أدري إن كان بإمكاني ألا أجعلك تنتظر كثيرا.. لأنني، ولا أخفي عنك من الأمر ما يستحق ذلك، لم أعد، للأسف الشديد، ذلك الفتى الذي تبادل وإياك يوما، أسرار العشق الأزلي، والاعتراف بسذاجة النصوص الأولى، وبكونها لا تصلح لأن تكون بداية لشيء ما…