Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

“ما بعد الإنسانية”: البشرية أمام المجهول؟

سلوى دبوق
لطالما داعبت فكرة الخلود مخيّلة البشر، والأساطير القديمة شاهد على حلم الإنسان بقهر الموت والتنعّم بالعيش الرغيد في الفردوس الأبدي. من منّا لم يسمع بملحمة جلجامش، ملك أوروك السومري الذي بحث عبثاً عن عشبة الخلود من أجل إحياء صديقه الحميم أنيكدو واكتشاف سر الحياة الأبدية! ومن منّا لم يقرأ أسطورة ولادة أخيل الذي مسحته أمه ثيتس بطعام الآلهة الأمبروسا وغمرته بمياه نهر ستيكس، فكاد أن يكون خالداً لولا كعب رجله الذي لم تصل إليه المياه! جاءت الأديان السماوية بعد ذلك، لتعزّز فكرة الخلود حين وعدت «الأبرار الذين يلتزمون بتعاليم الله» بالحياة الأبدية في النعيم، بينما حذّرت «الأشرار الذين يعيثون فساداً» في الأرض من أنهم سوف يُعَذبون في الجحيم.
لكن يبدو أن حلم العيش مطولاً وبصحة جيّدة، لم يعد أضغاث أحلام! مع التطور العلمي الكبير في ميدان العلوم الطبيعية وعلم الجينات والثورة التكنولوجية، لم يعد البقاء على قيد الحياة يتطلّب أعمالاً بطولية أو التزاماً بالقيم الأخلاقية. قريباً جداً كما يقول راي كورزويل، مدير القسم الهندسي في شركة غوغل أكبر الشركات الرأسمالية في العالم، سوف يتمكن الإنسان من تجاوز حدوده البيولوجية متوقّعاً اختراع روبوتات فائقة الصغر والدقة يتم زرعها في الدماغ والجسد البشري لتحسين وظائف الذاكرة ومهام الجسم وإصلاح أخطاء الحمض النووي، ما يؤدي إلى إطالة عمر الإنسان.
هذا الانتقال الراديكالي من الإنسان العادي الذي نعرفه إلى إنسان جديد (سيبورغ) مهجّن نصف إنسان/ نصف آلة، يبدو مفزعاً، ويطرح تساؤلات أخلاقية وفلسفية عديدة حول مفهومنا للإنسانية وموقعها في الوجود. بعدما كان الإنسان مركز الكون وسيّد الطبيعة ومالكها كما يقول الفيلسوف ديكارت، بدأ يخسر اعتباره رويداً رويداً لصالح مفاهيم جديدة. منذ نهاية القرن الثامن عشر وجروح احترام الذات الإنسانية تتراكم: خسر الإنسان الحديث مكانته المركزية في الكون حين علم أنّ أرضه العزيزة تدور حول الشمس لا العكس. وفقد بريقه عندما أخبره داروين أن أصله «يتحدّر من القرد»، وأصبح فاقداً للوعي وغير مسؤول عن أعمق أفكاره مع نظريّات فرويد النفسية. بعد ذلك، توالت الكوارث على الإنسانية وتبيّن عجز التطور عن تحقيق سعادة البشرية، وأخفقت النظريات الماركسية الاجتماعية في بناء عالم أكثر عدالةً. تسبّبت الكوارث المناخية الناجمة عن التلوث في انقراض فصائل مختلفة من النباتات والحيوانات. كل هذه الويلات جعلت أفكار الحداثة موضع ارتياب، وأعادت التشكيك بمركزية الإنسان ودوره في العالم. أما اللحظة الحاسمة التي أحدثت أزمة معرفية وأخلاقية كبيرة، فكانت بدون شك الحرب العالمية الثانية حين واجهت الإنسانية برمّتها احتمال فنائها الجماعي، وأدركت أنها أصبحت تمتلك السلاح النووي الفتّاك القادر على إنهاء حياة الملايين من البشر في ثوان معدودة وبدون رادع.
بناءً على ذلك، أعلن فلاسفة ما بعد الحداثة انتهاء عصر السرديات الكبرى ونهاية تيّار الإنسانوية الذي ازدهر في عصر التنوير. فلا عجب أن نسمع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو يتنبّأ بموت الانسان الذي سيختفي «مثل وجه رُسِم في الرمال على شاطئ البحر». أما الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك المتأثّر بمارتن هايدغر، فيقول إنّه آن الأوان للتفكير في ما بعد الإنسانية (le posthumanisme) ودعا إلى قيامة بيولوجية تتضافر خلالها جهود البيوتكنولوجيا والعلم من أجل ضمان استمرارية الإنسان في المستقبل، عن طريق اعتماد ما توفّره التقنيات الحديثة، خصوصاً علم الهندسة الجينية. في المقابل، عارض الفيلسوف يورغن هابرماس موقف سلوتردايك ورفض فكرة الاستنساخ بشدة، معتبراً أنّ مشروع الحداثة لم يمت وأن المُثل العليا التي دعا إليها عصر التنوير لم تكتمل بعد.
ويجري الحديث كثيراً حالياً عن «الإنسانية العابرة» transhumanisme. وهو مفهوم حديث نسبياً ظهر للمرة الأولى في دراسة لعالم الجينات جوليان هكسلي عام 1957. و«الإنسانية العابرة» مشروع إيديولوجي مستوحى من أفكار الفيلسوف نيتشه، يهتم بتحسين النسل الإنساني بواسطة التكنولوجيا من أجل خلق كائن متفوّق لا يشعر بالألم والمعاناة، ويتجاوز القدرات البشرية المعتادة. يهدف هذا المشروع بشكل أساسي إلى إطالة عمر الإنسان ووضع حدّ للموت البيولوجي. أما مشروع ما بعد الإنسانية (Le posthumanisme) فهو تيّار فكري فلسفي، وُلِد أول مرة كمصطلح في مقال للمفكر الأميركي من أصل مصري إيهاب حسن عام 1977، وتختلف تعريفاته حالياً، لكنه يقوم على فكرة أساسية هي أنّ الإنسانية مفهوم متغيّر في طور التشكيل والتطوير الدائم، وأنه يجب علينا أن نتخطى وجهة النظر التي تعتبر أنّ الإنسان مخلوق استثنائي ونبدأ بالاهتمام بالكائنات الأخرى حولنا.
اهتمت العديد من الأعمال الأدبية بمفاهيم «الإنسانية العابرة» وما بعد الإنسانية وعالجتها روائياً. في الأدب الفرنسي، هناك حوالى ثلاثين رواية تتناول هذا الموضوع، لعل أبرزها روايات ميشال ويلبيك كـ «احتمال جزيرة» و«الجزيئات الأساسية» ورواية «شفافية» لمارك دوغين. تقدم معظم هذه الروايات صورة سوداوية عن المستقبل البشري وتتشابه مع تلك التي تنتمي لفئة الخيال العلمي من حيث اختيار الثيمات كالاستنساخ والتعديل الجيني، وسيطرة الآلات، لكن لديها مقاصد مختلفة لأنها ترغب بالتأثير على إدراك المجتمع لتصوّرات ما بعد الإنسانية وتوجيه النقد اللاذع لهذا المشروع والتحذير من مخاطره.

 

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share