إذا سألت مجموعة من الأشخاص يهتمون –أو لا يهتمون- بمتابعة الشأن السياسي الدولي، عن أسباب ما يدور في منطقة الشرق الأوسط من صراعات وحروب أهلية وطائفية وفتن متواصلة، تكاد لا تتوقف، سوف تجد فريقاً يقول أن السبب وراء ذلك هو رغبة البعض في تحقيق مكاسب مادية من خلال ترويج صناعة الأسلحة، وتجد فريقاً آخر يرى أن السبب هو الرغبة في بسط السيطرة والنفوذ على المنطقة، وفريق ثالث قد يرى أن السبب هو إيقاف أي محاولة لتقدم دول المنطقة؛ من خلال إشغالهم بتلك الصراعات والحروب، وهناك فرق أخرى قد ترى أسباباً أخرى.
ورغم أن لكل فريق رأياً قد يكون مختلفاً –في ظاهره- عن الأخر، إلا أن الأمر المؤكد أن الغالبية العظمى –وإن لم يكن الجميع- سوف تؤكد أن “أمريكا” هي المحرك الرئيسي لما يحدث، وهي من تقف وراء ما يدور في منطقة الشرق الأوسط، إذ دائما ما نجد شبه إجماع على أن الولايات المتحدة الأميريكية تحرص على خلق صراعات ونزاعات في المنطقة.
والوقع، أن هناك العديد من الأمور المرتبطة بـ”أمريكا” يصعب تفسيرها، أو بمعنى أدق، لا يتفق تفسيرها مع المنطق العادي للتفسير، ومن ذلك –على سبيل المثال- ما رأيناه من عدم حصول “ترامب” على تأييد اليهود الأمريكان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، رغم ما قدمه إليهم خلال مدة ولايته، وبالأخص قراره نقل السفار الأمريكية إلى القدس، وهو أمر لم يسبقه إليه رئيس أمريكي، فضلاً عما وصل إليه في شأن التطبيع بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني، وما خلفه ذلك من انتكاسة عربية جديدة، ومن ثم كان من المفترض من دعاة السلام أن يثمنوا تلك الخطوة!!! ولكن، الأمر قد سار على غير المتوقع.
وبعيداً عن استراتيجية “ترامب” والتي أدت على المستوى الدولي إلى إقحام الولايات المتحدة في صراعات مع أطراف عدة، حيث كان يسعى سعياً حثيثاً إلى استعداء دول ومنظمات وهيئات دولية دون مبرر واضح، ودون اكثراث لنتائج ذلك، ناهيك عن المثالب التي شهدتها إدارته على المستوى المحلي.
وبعيداً أيضاً عن القول بأن سياسة “ترامب” كانت تتماشى مع سياسة أمريكا في أهدافها الخفية، تلك السياسة التي كانت ومازالت -وستظل- تقوم على السعي نحو سلب مقدرات الشعوب متعللة بـ “حمايتها”، والقضاء على أية قوى بحجة ـما أسمته “الإرهاب”، وفي ذات الوقت المناداة بإقامة العدل والسلم الدوليين مع التظاهر برفع مبادئ الحرية والديمقراطية، وهي كلها شعارات تستخدمها كثيراً لتبرير بعض تصرفاتها وقراراتها أمام المجتمع الدولي.
ومع تأكيد أن التحليل الآتي عرضه في هذا المقال ما هو إلا رأي شخصي، قد يكون صائبا، وقد يكون جانبه الصواب، أعتقد أن تحليل المشهد الأمريكي، وتفسير بعض الأمور غير المنطقية، وكلمتي السر في بعض ما يدور من أحداث؛ يتلخص في أمرين: “هرمجدون” و”روسيا”.
“هرمجدون” تلك المعركة الكبرى التي يُعتقد أن تقع من أجل عودة السيد المسيح “عليه السلام” مرة أخرى، فهي النبوءة التي زعم البعض أنها منصوص عليها في “التوراة”، وظلت على مدار العقود الماضية من الزمن هدفاً مرتقباً، وقامت من أجلها العديد من الحركات الدينية التي يمكن وصفها بالمتطرفة، بدأت في بريطانيا ثم الولايات المتحدة الأمريكية ثم وصلت إلى أسيا، وخاصة في كوريا الجنوبية.
وحتى تحدث تلك المعركة –في رأي من يعتقدون حتمية حدوثها-، لابد من تحقق عدة أمور منها: عودة اليهود إلى فلسطين، وقيام دولة إسرائيل، وهجوم أعداء الله على إسرائيل، وصولاً إلى وقوع معركة “هرمجدون”، وانتشار الخراب والدمار ومقتل الملايين، ثم في النهاية ظهور المسيح “عليه السلام” من أجل إنقاذ الإنسانية من الإندثار الكامل.
ورغم أن الكلام قد يبدو للوهلة الأولى مستغرباً، إلا أن واقع الحال يؤكد ذلك، فالمنطلقات الفكرية للحركة الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة والمنظمات الدينية التي تعمل تحت ظلال “كنسي” للترويج لأفكارها، كانت ومازالت مؤثرة بشكل كبير في المجتمع الأمريكي، وكونت ضميراً دينياً جماعياً بوجوب دعم تلك الأفكار، تحقيقاً لنبوءات مستخرجة من “التوراة”.
ولعل ما زاد من قوة تأثير تلك الحركات الدينية، أنه قد آمن بها وسعى إلى تحقيق مقدماتها الكثيرون داخل وخارج أمريكا، بل ووصل الأمر إلى أن أعلنها صراحة بعض كبار الساسة والكتاب الأمريكان، ومنهم الرئيس الراحل “رونالد ريغان” و”جيري فولويل” و”هول لندسي” وغيرهم من الشخصيات المعروفة والمؤثرة داخل المجتمع الأمريكي، حيث كانوا يعتقدون أن الكتاب المقدس يتنبأ بالعودة الحتمية الثانية للمسيح بعد مرحلة من الحرب النووية العالمية والكوارث الطبيعية والإنهيار الإقتصادي والفوضى الاجتماعية.
فها هو الرئيس الأمريكي الراحل “ريغان” يقول صراحة في إحدى اللقاءات : “إن جميع النبوءات التي يجب أن تتحقق قبل “هرمجدون” قد تحققت، ففي الفصل 38 من سفر “حزقيال” –وهو أحد أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس- أن الله سيأخذ أولاد إسرائيل من الوثنيين حيث سيكونون مشتتين ويعودون جميعهم مرة ثانية إلى الأرض الموعودة. لقد تحقق ذلك أخيرا بعد ألفي سنة، ولأول مرة يبدو كل شيئ في مكانه بانتظار معركة “هرمجدون” والعودة الثانية للمسيح”.
والواقع، أن الخطورة الفعلية في الأفكار السابقة تكمن في أن الأمر قد تحول لدى نسبة كبيرة من الشعب الأمريكي من مجرد “نبوءات” منصوص عليها في الكتاب المقدس، إلى “فرض ديني” يتمثل في وجوب تحقيق كافة المقدمات اللازمة من أجل العودة الثانية للمسيح، فيلزم إذن أن تحدث معركة “هرمجدون” النووية التي تقضي على ملايين البشر، لدرجة أن وصل الأمر بالكاتب الأمريكي “هال ليندسي” إلى أن يقول خلال تفسيره لتاريخ الشرق الأوسط والعالم في كتابه “الكرة الأرضية العظيمة السابقة”: (إن دولة إسرائيل هي الخط التاريخي لمعظم أحداث الحاضر والمستقبل).
وتماشياً مع تلك المعتقدات، يمكن تفسير المشهد السياسي داخل الولايات المتحدة، فالرئيس السابق “ترامب” أعلن منذ بداية حملته الانتخابية رفضه لفكرة “الحرب العسكرية”، فهو رجل “مال” يعرف جيدا كيف يستخدم أوراقه وأدواته للضغط على الدول من أجل جلب الأموال إلى دولته وشعبه، مستغلاً نقاط ضعفهم وخوفهم وحرصهم على مصالحهم الشخصية، ويرى في ذلك السبيل الآمن لتحقيق أهدافه دون الحاجة إلى الدخول في معتركات عسكرية.
لذلك كنا نجده من حين إلى آخر يطلق تصريحات مفادها رفض التدخلات العسكرية التي قامت بها دولته خلال السنوات السابقة، لدرجة أنه دائما ما كان يؤكد أن توغل بلاده في الشرق الأوسط كان أسوأ قرار في تاريخ الولايات المتحدة، وأن ذلك القرار اتخذ بذريعة باطلة تم دحضها لاحقاً، تمثلت بوجود أسلحة دمار شامل في المنطقة.
إذن نحن كنا أمام قوتين؛ سياسة “ترامب” التي تقوم بوضوح على مبدأ “النهب المباح دون قتال”، وقوة أخرى تتمثل في الهدف السامي لدى صناع القرار في أمريكا وهو وجوب قيام حرب “هرمجدون” النووية من أجل عودة “المسيح”، وما قد يتطلبه ذلك من التدخل العسكري، وهو أمر يرفضه “ترامب” رفضا مطلقا، على الأقل لعدم فقد شعبيته التي حققها والتي كان يأمل في استثمارها لنيل شرف الولاية الرئاسية الثانية.
وأمام ذلك الصراع تلخص المشهد الأمريكي، فإصرار “ترامب” على عدم الرضوخ وقبول فكرة التواجد العسكري الفعال في المنطقة، كان داعياً لصناع القرار في الولايات المتحدة إلى دعم المعسكر الأخر الذي يمثله “بايدن”، بغية تحقيق مآربهم، لذلك نجد أن غالبية أصوات اليهود الأمريكان ذهبت إلى “بايدن”، رغم كل ما قدمه ترامب لصالح اليهود طوال السنوات الأربع لولايته.
وأعتقد أن ترامب كان يعلم جيداً خطورة “بايدن”، ووضح ذلك في أكثر من مناسبة، لعل أبرزها المكالمة الهاتفية الشهيرة التي دارت بينه وبين الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”، والتي كان لها –في تقديري- أثر في زيادة شعبية “بايدن”.
وفيما يتعلق بـ”روسيا”، وهي كلمة السر الأخرى في المشهد الأمريكي، فسوف نسلط عليها الضوء بشكل تفصيلي في مقال قادم.